Atwasat

طرابلس: ميليشيات للإيجار

سالم العوكلي الأحد 23 أكتوبر 2016, 12:08 مساء
سالم العوكلي

طيلة حراك فبراير، ظلت طرابلس العاصمة تحت قبضة النظام، لأن أي نظام في العالم، وعبر التاريخ، يعتبر سقوط العاصمة سقوطَه، لذلك سيُسخر كل ما يملك من قوة للحفاظ عليها كي يطيل الصراع لعل متغيرات تقلب المعادلة، ودمشق التي ظلت عصية على دخول المتمردين في سوريا مثال راهن على ذلك.

بعد تدخل الناتو وقصفه المتواصل للمواقع الحيوية في طرابلس بدأ السكان هناك ينقسمون، والغالبية بدأت ترى أن ما يحدث ليس ثورة شبيهة بما حدث في تونس ومصر، لكنها مؤامرة دولية تتذرع بحماية المدنيين حسب قرار مجلس الأمن، وهذه التغيرات هي التي أدت إلى خروج حشود في ميادين طرابلس احتجاجا على عدوان الناتو على العاصمة وليبيا.

طبيعة الذهنية الليبية، أو العاطفة، تخبرنا تاريخيا أن أي اعتداء أجنبي، حتى وإن كان تحت شعارات براقة، يعتبر غزوا، وأي تعامل معه من الداخل يعتبر عمالة وخيانة، وأنه في هذه الحالة اختفت ملامح الثورة الشعبية لصالح المؤامرة الدولية، خصوصا وأن الناس يتذكرون تدخلات الناتو السابقة في المنطقة التي أدت إلى عواقب وخيمة.

إبان الغارة الأمريكية عام 1986 التي ركزت ضرباتها على مقر القذافي، أدان سجناء سياسيون يعانون الويل في السجن الاعتداء على الأرض الليبية وانتهاك سيادتها، وأضرب الكثير منهم عن الطعام احتجاجا. إنهم سجناء رأي مظلومون من قبل النظام الذي تقصف مقراته، لكن الوطن الذي يسكن أعماقهم كان أقوى من عاطفة تصفية الحساب مع النظام، أو اختزال الأرض التي تنتهك سيادتها في هذا النظام. في الوقت نفسه كان الكثيرون ممن يتمتعون بالهواء الطلق فرحين بهذا القصف لرموز النظام الذي اختزلوا الوطن فيه، بل أن الكثيرين من أعضاء اللجان الثورية المتنعمين بامتيازات النظام مزقوا ملفاتهم بالمثابات اعتقادا منهم أن الولايات المتحدة قررت أن تنهي هذا النظام. إنها المفارقة التي يمكن من خلالها أن نحدد مفهوم الوطني، ومفهوم الوعي بالوطن كهوية أكبر من المراحل السياسية، وأيضا مفهوم النظام الذي من المفترض أن لا نزدري الوطن بحجته، وهكذا شكل الوعي لدى السجناء المثقفين؛ وهم يحتجون على الغارات الأمريكية، مفهوم الوطنية الأصيلة التي يتشدق به الكثيرون الآن.

أن ترفض؛ وأنت في ذروة الألم والعتمة، اعتداءً على بلدك قد يفتح لك كوة في هذا السجن، يعني أن الوعي الوطني لديك أكبر من عواطف التشفي، وأن الحرية ليست في تكسير أبواب السجن فقط لكنها تكمن في قيم سياسية وإنسانية، كانت المطالبة بها السبب في إيداعك السجن.

سقوط طرابلس كانت فعلا تسمية مناسبة تصف سقوط عاصمة الليبيين في يد ميليشيات معظمها مدعوم من الخارج

في شهر أغسطس 2011 سميت معركة الدخول إلى طرابلس باسم غريب: "تحرير طرابلس" والبعض سماها بعد أن نجحت: "سقوط طرابلس" وحدد يوم ذكرى فتح مكة يوما لدخول طرابلس، ووافق الناتو على هذا اليوم وهذه الذكرى التي تقريبا لا يعرف عنها شيئا، لكن تلك القوى كانت مستعدة لدعم وتكريس كل ما يمت لليقظة الدينية، أو للمصطلحات الدينية التي رافقت حراك فبراير، بصلة ، بما يتناغم ورؤيتهم المستقبلية للمنطقة.

ودخل من يسمون بالثوار إلى طرابلس كما وعدوا في ذكرى فتح مكة، لكن السؤال وقتها كان: طالما أصبحت المرجعية الوحيدة لهذا الحراك مرجعية دينية، هل يستطيع (الفاتحون الجدد) أن يفعلوا ما فعله الفاتحون لمكة يوم الفتح؟ لكن طرابلس لم تكن مكة، وسكانها لم يكونوا قريشاً، والثوار ليسوا الصحابة، وبمجرد أن سادت عبارة سقوط طرابلس (وليس فتح طرابلس) بدأ الانتقام على أشده وتصفية الحساب والاعتداء على أملاك الناس، والاغتصاب أيضا.

وكأن طرابلس يجب أن تدفع ثمن كونها مقرا لرأس النظام في باب العزيزية، وبالتالي لم يكن أمامها خيار سوى أن تستسلم لمن كانوا يسمون الثوار القادمون من خارجها والذين كانت المزايدة ذخيرتهم، إضافة لما يستقبلون من ذخائر من خلف الحدود، والذين سرعان ما تضاعفت أعدادهم وتحولوا إلى ميليشيات تحتل طرابلس، بكل معنى الاحتلال، وقُسمت أحياؤها ومقراتها بينهم، وكل ميليشيا أنشأت محكمتها الثورية الخاصة وسجنها وأدوات تعذيبها الخاصة. كان المسار السياسي يتقدم برعاية المجتمع الدولي، وعلى الأرض كانت الميليشيات التي تُضخ لها الأموال والأسلحة من دول إقليمية تكبر وتنمو ساخرة مما يفعله السياسيون، ساخرة من صناديق الاقتراع ومن الإعلان الدستوري ومن المسار الديمقراطي برمته، لتعبر في النهاية عن هذه السخرية بانقلاب فجر ليبيا المسلح، وما يتبعه حتى الآن من انقلابات.

ورغم ذلك مازلنا نسمي تلك الذكرى بيوم تحرير طرابلس، ونسمي الخطاب الذي ألقى في شهر أكتوبر بعد نهاية رأس النظام بخطاب التحرير، وطرابلس لم تكن محتلة قبلها لكنها كانت مقرا لحكم دكتاتوري لا نستطيع أن نقول عنه غير وطني، ومشكلتنا مع هذا النظام مشكلة حريات وعدالة اجتماعية وبناء دولة مدنية محترمة، وليست مشكلة دينية أو مشكلة احتلال أو عمالة أو انعدام وطنية.

سقوط طرابلس كانت فعلا تسمية مناسبة تصف سقوط عاصمة الليبيين في يد ميليشيات معظمها مدعوم من الخارج، وأن الطرابلسيين الذين دفعوا ثمنا باهظا يوم غرغور أضعاف ما دفعوا من ضحايا إبان خروجهم في 20 فبراير 2011 هم مختطفون فعلا، ومدينتهم محتلة لأن الاحتلال يعني السيطرة على الناس بالسلاح غير الشرعي في الشوارع، سواء كان في يد قوة أجنبية أو قوة محلية تفتقد لأخلاقيات حمل السلاح.

لذلك ما حدث ويحدث وسيحدث في طرابلس من صراع بين هذه الميليشيات الغازية طبيعي جدا، لأن طرابلس سقطت فعلا في أيدي مجموعات يتلاعب بها المال السياسي، وبكونها ميليشيات للإيجار تميل كل مرة لمن يدفع أكثر، وكل ميليشيا تضعف أو تقوى حسب قدراتها المالية أو حسب الداعم لها من الداخل أو الخارج، حيث لا ثمة معنى للوطن لدى من خرجوا من حضن الناتو إلى حضن المال السياسي، والذين اختزلوا الوطن في النظام ثم في المصرف المركزي. أما الحكومات المتصارعة في طرابلس فهي مجرد أدوات سياسية لهذه الميليشيات التي تحتاج إلى أموال لن تتدفق إلا عبر من يلعبون لعبة الشرعية ويستدرون عطف القوى الكبرى والمؤثرة.
إنهم يعرفون أن القذافي حكم ليبيا أربعة عقود بالمال والسلاح، وهم الآن يملكون هذا المركب، وأية محاولة لنزعه منهم تعني نهايتهم.