Atwasat

سوء الحظ التاريخي

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 09 أكتوبر 2016, 11:33 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

في مقالي الأخير "الشعب التراجيدي" الذي نشر بـ"بوابة الوسط" الأحد الماضي 3. 10. 2016 أشرت إلى ما أسميته "سوء الحظ التاريخي"، الذي لازم الشعب الليبي في التاريخ المعاصر. لا نريد القول أن ثمة سوء حظ أو نحسا، بالمعنى الغيبي أو الميتافيزيقي، يلتصق بالشعب الليبي ويستهدفه طوال تاريخه. لكننا نرى أن جملة من المفارقات والشروط الجغرافية والتاريخية السلبية، المتوالدة عن بعضها في أحيان كثيرة، اكتنفت، منذ غابر الأزمان، الإقليم المسمى ليبيا الحالية وتضافرت تفاعلاتها بحيث أبهظت حياة ومعيشة وتاريخ المجموعات البشرية التي تسكنه.

ففي الحقبة المعروفة بـ"حقبة العصر الحجري الأول المطير" الذي دام من 9000 إلى 2500 سنة ق. م، كان قسم كبير من الصحراء الكبرى، التي تشكل الجزء الأكبر من مساحة ليبيا، صالحا لسكنى الإنسان ومغطاة بالأعشاب والأشجار وتعيش عليها مختلف أنواع الحيوانات وكان ثمة تجمعات بشرية تمارس الصيد وبعض النشاطات الحيوية الأخرى.

إلا أنه مع حلول منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد بدأت السافانا في التحول إلى الصحراء التي نعرفها الآن1. إنه الجفاف العظيم الذي ضرب المنطقة، وبسبب عدم وجود أنهار كبرى أو كبيرة تمكن من إقامة مستوطنات زراعية على ضفافها، ومن ثم نشوء سلطة مركزية تتولى إنشاء مرافق الري وتشرف على تنظيم عمليات الاستفادة منه بين الفلاحين، أي تشكل دولة، مثلما حدث في مصر، تشتت المجموعات البشرية في ليبيا حسب توفر جيوب الحياة في الإقليم، وبذا حرم من ظهور دولة مركزية محلية تؤسس لولادة حضارة مستقرة متنامية. ولم يعرف الإقليم دولة مركزية تبسط نفوذها على كامل ترابه إلا من خلال غزو الرومان له وضمه إلى أملاك الإمبراطورية الرومانية (146 ق.م- 670م).

مع نجاح الانقلاب الذي قاده معمر القذافي في الاستيلاء على السلطة دخلت البلاد في نوبة جديدة من سوء الحظ

وحتى تحت الحكم الإسلامي لم يكن الإقليم مهما لراسمي سياسات دولة الخلافة ولم تقم به مراكز حضارية معروفة على غرار بغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وفاس ومراكش. يضاف إلى ذلك أنه حتى المراكز الحضارية الصغيرة التي قامت في كل من طرابلس وبني غازي ومرزق وزويلة وغدامس وغيرها، التي كان يمكن أن تتبلور فيها حضارة ملائمة، أخذت تتعرض إلى ضمور وتآكل منذ القرن السابع عشر بعد حركات الكشف الجغرافي الأوربي واكتشاف رأس الرجاء الصالح وما استتبع ذلك من تبدل حركة التجارة العالمية وتراجع أهمية تجارة العبور المعتمدة على القوافل2.

مع أواسط القرن السادس عشر بدأ إقليم ليبيا يدخل تحت سلطة الإمبراطورية العثمانية. أي تحت حكم سلطة مركزية، فكان العهد العثماني الأول(1551-1711) ثم الدولة القره مانلية شبه المحلية (1711-1835) ثم العهد العثماني الثاني (1835-1912). لكن الإمبراطورية العثمانية وكذلك الدولة القره مانلية كانت دولة ريعية تهتم، أكثر ما تهتم، بتحصيل الضرائب وبناء القوة العسكرية الضاربة دون التفات يذكر إلى متطلبات الشعب وتطوير الحضارة.

سنة 1908 صدر الدستور العثماني المعروف بـ "المشروطية" وكان متفتحا نسبيا ويمكن أن يستفيد منه الليبيون باعتبار ليبيا، المعروفة حينها بـ "إيالة طرابلس"، من ممتلكات الدولة العثمانية. إلا أن "سوء الحظ التاريخي" الذي تحدثنا عنه تمثل في قيام إيطاليا بغزو ليبيا سنة 1911.

سنة 1952 استقلت ليبيا تحتى مسمى "المملكة الليبية المتحدة" ثم "المملكة الليبية". ورغم أننا لسنا من الذين يعتبرون النظام الملكي الذي حكم ليبيا من سنة 1952 إلى 1969 نظاما ديموقراطيا ومثاليا، بل نعده نظاما قمعيا حظر الأحزاب وصادر الصحف وحل البرلمان وأطلق النار على المتظاهرين، إلا أنه مما لا جدال فيه أنه حدث في تلك الفترة نهوض وبناء للدولة والتزام بوظائفها العامة إزاء شعبها. كانت فترة انتعاش. وبالرغم مما أحدثه تدفق المردود النفطي من تحسن في المستوى المعيشي العام لليبيين إلا أن الأمور كانت تسير في السنوات الأخيرة من عمر النظام نحو أن يزداد الأغنياء غنى والفقراء فقرا وبرزت ظواهر استغلالية واضحة، من مثل الاتجار في الأيدي العاملة.

مع نجاح الانقلاب الذي قاده معمر القذافي في الاستيلاء على السلطة دخلت البلاد في نوبة جديدة من سوء الحظ. لكن النحس التاريخي الأكبر هو ما يجري منذ سنة 2011 وحتى لحظة كتابة آخر جملة في هذا المقال.

1- ينظر: فِلِب كوبِنز. تاسيلي: مسقط رأس الحضارة المصرية القديمة؟. ترجمة عمر أبو القاسم الككلي
http://www.aminmazen.com/pegas/index_alkikli.htm
2- د. محمد الجراري، أحمد النائب الأنصاري و المؤسسة العلمية. مقاربة في الأزمنة و الأدوار( ورقة مقدمة إلى ندوة" المؤرخ أحمد النائب الأنصاري، حياته و آثاره و عصره، في الذكرى المئوية لصدور كتابه ، مع نهاية القرن 1899-1999، المنعقدة بمركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، من 8 إلى 10/10/1999). مخطوطة.