Atwasat

طوائف النفط

سالم العوكلي الإثنين 03 أكتوبر 2016, 08:55 صباحا
سالم العوكلي

ربطتني علاقة ولقاءات وحوارات شيقة مع شخصيتين من درنة، الحاج فرج الزنّي، أحد رجال السينما في درنة باعتباره صهر شقيقي، والحاج إدريس باكير بوشيحة، باعتباره جار الحاج فرج الزني، ورغم أنهما يكبرانني بأربعة عقود إلا أن التواصل معهما ومتعة الحديث كسرت هذا الفارق الزمني.

الحاج إدريس كان أحد المتطوعين في حرب الـ 48 بفلسطين، رجلا يحب السفر والتجوال ما منحه ثقافة واسعة فضلا عن حفظه الشعر الشعبي وروايته ونظمه له، والحاج الزني أحد مثقفي السينما ومديريها عندما كانت توجد في درنة أربعة دور للسينما، واحدة منها صيفية، تقدم عروضاً أسبوعية للنساء.

من خلال تلك الجلسات فهمت تلك العلاقة الجميلة التكاملية بين المدينة ومحيطها لأنه لا غنى لهما عن بعضهما، فالمدينة كانت تصلها السلع الضرورية من المحيط، من قمح وشعير ولحوم وبيض وحليب ومشتقاته، بينما تصدر المدينة إلى محيطها السكر والشاي ومواد الزينة والبهارات والملابس وأيضا بعض الأدوات الحرفية الضرورية كالرحى والرونج وزينة الخيول وغيرها. وهذا التكامل فرض نوعا من التناغم الاجتماعي المرفود بتكامل اقتصادي يتعلق بالحياة اليومية، فكل بدوي لابد وأن يكون له أصدقاء من الحضر والعكس.

مع بداية النفط الذي غيّر الكثير من العلاقات في المجتمع، بدأت سياسات النظام الملكي في التعامل معه بحذر، وباشرت عملية تصدير المدينة لنفسها إلى الريف والمحيط عبر توفير المساكن الشعبية في القرى والمساكن الرعوية، وتزويد الفلاحين عن طريق المصرف الزراعي بالتقنيات الزراعية الحديثة، وبناء المدارس والمستوصفات ومؤسسات الخدمات الإدارية، وكانت المكتبات المتنقلة تزورنا في القرى، وأيضا السينما المتنقلة التي يتحول يوم مجيئها إلى احتفال قروي أسبوعي.

مع سقوط النظام السابق، وشبه خلو المجتمع من المؤسسات برزت القبيلة كأداة شبه وحيدة لحماية الأفراد ولتحقيق نوع من السلم المجتمعي

وكانت هذه السياسة من باب الحذر من نزوح سكان الريف أو المحيط إلى المدينة لأن ذلك سيتسبب في مشاكل اقتصادية تتعلق بما ينتجه هذا المحيط، وفي الوقت نفسه، ارتباكا للمدينة حين يكون الانتقال إليها نوعا من النزوح الجماعي، لأن الانتقال الطبيعي يتم عبر وصول الشباب حسب اختصاصاتهم ودرجات تعليمهم إلى العمل في المدينة ليذوبوا فيها تلقائيا، ويصبحوا جزءا من نسيجها ومن طبقة تكنوقراطها.

مع تغيير 69 وفي فترة كان يملؤها الحماس الثوري وسياسات الابتزاز التي ركزت على زيادة المعاشات الشهرية، وتكديس النفط في المدن ليتحول إلى ميزانية مرتبات، وحيث لا تتوفر فرص عمل إلا في المدن أخذ الانتقال شكله غير الطبيعي، وكان ظالما للاثنين، للبدوي الذي تعود على حياة الخلاء ليجد نفسه معلقا في شقة ضيقة بسبب ملاحقته للرزق، وللمدينة التي غصت بالنازحين إليها دون أن تتشكل لديهم آليات التأقلم التدريجية.

ومن ثم حولت ما تسمى السلطة الشعبية الصراع على المناصب ساحة لصراع من نوع آخر مكانه المدينة وأداته القبيلة التي روجها النظام كبديل للأحزاب والمنظمات المدنية الممنوعة، للدرجة التي أصبح الكثير من سكان المدن الذين كانوا لا يعرفون قبائلهم يبحثون عن أصولهم القبلية للدخول عبرها في هذا الصراع، بل تشكلت في حاضرة مثل درنة منظمات لشباب القبائل بعضها كان يصدر صحفا ناطقة باسمها، ورغم ذلك كانت الأندية الرياضية والمراكز الثقافية وحتى السهرات الخاصة خليطا من كل المكونات، بل وتعطي بظهرها لهذه الصراعات الانتهازية التي يزداد أوارها كل تصعيد.

من جانب آخر، وربما لأسباب اجتماعية، أو ما حدث من تبدل في العلاقات الإنتاجية، غابت تلك العلاقة التكاملية؛ التي تحدثت عنها في البداية، لأن النفط أيضا الذي حول الدخل إلى اقتصاد ريعي، بدأ يجلب القمح والشعير واللحوم والبيض والألبان من البحر، وبدأت المدينة المنتظرة للسفن التي ترسو في الميناء تدير ظهرها للمحيط الذي لم تعد في حاجة إليه، بل أصبح يشكل لها إزعاجا بسبب الصراعات على المصالح والثروة التي تكدست في المدن كما أسلفت. الترويج لهذه النعرة الآن يأتي في السياق نفسه، خصوصا بعد فشل الحياة المدنية في إنتاج مؤسسات انتماءات بديلة من شأنها أن تحمي مصالح الفرد.

مع سقوط النظام السابق، وشبه خلو المجتمع من المؤسسات، برزت القبيلة كأداة شبه وحيدة لحماية الأفراد ولتحقيق نوع من السلم المجتمعي، لكن النعرات القديمة التي قسمت المجتمع إلى ثنائية حضر يتمتعون برفاه المدينة وبدو يغزون مراكزهم الحضرية، عادت من جديد واستخدمت في الصراع السياسي كأداة للحشد من الطرفين، بل بعض المدن تحولت إلى نوع من الحاضنات للجماعات المتطرفة بحجة الخوف من المحيط الذي يتشكل منه أفراد الجيش والأجهزة الأمنية، وهذا واقع فعلا وله مروجوه.

واتُخذ هذا التقسيم أداة للصراع على السلطة على مستوى البلد كله، فعملية فجر ليبيا وصفها بعض محركيها بكونها معركة بين الحضر والبدو، وخطيب جامع في مصراتة يصف أهل برقة برعاة الغنم، فضلا على ما ينتشر في مواقع الاتصال من خطابات عنصرية تنطلق من هذه الثنائية، وكأن المجتمع الذي لا توجد فيه طوائف أو إثنيات متناحرة، بشكل يشابه ما يحدث في سوريا والعراق واليمن، يبحث عن أي تقسيم قطيعي من أجل الحشد ومن أجل خلق منطق للصراع المفتعل (وهو صراع تدخل فيه عوامل أخرى متداخلة لكنه لا يخلو من هذا النزوع العنصري كأحد محفزاته).

ما يحدث الآن بين درنة ومحيطها لا يخلو من هذه النعرة التي تأججت بعد سقوط النظام المحسوب وفق شعاراته على البدو، رغم أن الطغيان ظاهرة سلطوية لا ترتبط بالبدو، ولا حتى بالعسكر، ولكن بآليات اجتماعية معقدة تتضافر لتشكل في النهاية أرضية خصبة لنمو الطغاة، ولعل ظهور طغاة في القرن الماضي من قلب الأرستقراطية الأوروبية كمؤسسين للفاشية والنازية، وفي أبرز المراكز الحضارية؛ مثل برلين وروما وغيرها؛ يفند هذه الفكرة المسبقة من أساسها.

النفط كان وسيلة ثراء مفاجئ في ليبيا، وتمت إدارته بشكل سيء، اقتصادياً واجتماعياً، فتحول إلى نقمة بدل أن يكون نعمة، وعودة علاقات التكامل المصلحي بين مكونات المجتمع الليبي سيسهم في الحفاظ على هذا النسيج وسلمه المجتمعي، وهذا لا يتأتى إلا ببرامج مدروسة للتنمية المكانية التي من الممكن أن تشجع هذه المرة على هجرة عكسية من المدينة إلى الريف وعلى عودة تلك العلاقات الطبيعية الحميمة التي حدثني عنها شيخان مثقفان من درنة قبل أن تفعل الثروة النفطية فعلها في منظومة القيم الاجتماعية.