Atwasat

الحدادُ يليقُ ببنغازي أيضًا

أحمد الفيتوري الثلاثاء 14 يونيو 2016, 06:07 مساء
أحمد الفيتوري

يقولُ الشاعرُ السوري محمد عمران في قصيدة بنغازي:
أنا والبحر عاشقان عتيقان
كبرنا في غربة الحزن
ضيعنا مفاتيح حُبنا
فتشردنا
نمنا على عراء الليالي
أنا والبحر غُربتان
لهُ منفى بأعماقه
ولي قاعُ منفاي
لنا شرفة على بنغازي.

ليبيا بلاد مُقسمة على الأرض وكلٌ يغني على ما اكتسب وما سوف يكتسب في مجلس الرئاسة والنواب... إلخ، ومن شابه أباهُ فما ظلم. بلادٌ بلاها الله بمن صادر الحق والحقوق، ورأى أن للحقيقة وجهًا واحدًا هو ما يرى، وأن ليس للحقيقة وجوه عدة. بلاد يزايدُ فيها الكثير بالوطنية ويعتبرُ أن ما ليس برأيه فهو مشكك وهو جاهل وهو عديم النزاهة الوطنية وواجب عزله السياسي. بلاد فيها مُصابي هو المُصاب وما غيره ليس بمصاب.

في بلاد كهذه تعيش منذ 15 فبراير 2011 م في المذبحة بنغازي مدينتي و"الصابري" الحي الذي ولدتُ وعشتُ ويعيشُ فيه أهلي، وتضطرد هذه المذبحة يومًا عن يوم، وأن صرخت بنغازي من الألم أو شكي أهلها تُكال التهم والمُزايدات، وكأنما أن يموت المدنيون في بنغازي هذا استحقاق وواجب وطني وفداء وفرض عين.

يتساقطُ القتلى في كل ليبيا بين حين وحين، ويتساقط القتلى في بنغازي في كل حين، وكل القتلى في ليبيا ضحية صراع على السلطة قادهُ ويقودهُ الإسلام السياسي المسلح بميليشياته المُتعددة وفصائله المختلفة والتي على خلاف، ومعهم حلفاء طلاب مال أولاً وسلطة ثانيًا، وهم أيضًا حاملو سلاح ثالثًا، تحقيقًا للمقولة القذافية الخالدة: السلطة والثروة والسلاح في يد الشعب وهم الشعب.

يُكال الأمر بمكيالين فما يخص القتل، ما يحدثُ في بنغازي ليس كما في غيرها، بنغازي مبتلية بـ"الطاغوت" وغيرها مأمنه بمصل الإسلام الديمقراطي المسلح.

يتساقط القتلى المدنيون بين يوم وآخر في مدينتي بنغازي، كما يتساقط بلح خريف البلاد وكأنما وجب عليهم دفع الفدية لتمردهم على الطاغية في فبراير 2011م؛ مما جرَ البلاد إلى حروب أهلية في كل ربوعها الآمنة والمستكينة، وجرَ البلاد لتدخلٍ دولي لم يتوقف منذ صدور قرار 1973م، وكأنما هذا يستوجب أن يعبث فيها "الإسلام الديمقراطي المسلح" لتحقن بمصله ضد الطاغوتِ والطاغوتية.

ما بعد فبراير 2011م باتت المدينة وكر الانفصاليين الفيدراليين، باتت وكرًا للأزلام ولهذا عُدت الاغتيالات في حينها لهؤلاء، باتت مدينة الكبر والغطرسة، باتت الشيطان الأكبر ومنها اتخذت ساحة حرب ضد هذا الشيطان.

هذا ما باتت مدينة الحرب عليه عندما أرادوا محاصرة انتفاضة ثورة فبراير، ممن أرادوا الاستيلاء على السلطة في البلاد، وممن أرادوا الانتقام وممن أرادوا إنهاء دورها وحصرها عند مهمة إسقاط رأس النظام، وممن حولوا البلاد إلى ساحة للاحتراب في الإقليم وفي المسار الدولي.

ما باتت عليه المدينة أصبحت فيه البلاد دولة فاشلة، هذه الدولة الفاشلة الساعة على باب تصعيد خطير مائلهُ لا يُدركه حتى المتفقهون الاستراتيجيون.

والحال الساعة أن بنغازي التي تعيش المذبحة منذ سنوات وتتفاقم أوضاعها تدخل في سرداب ومتاهات سياسية وعسكرية وأمنية؛ نتيجة لاتفاق يفترض أنه يسهم في وضع لبنة الوفاق الوطني، لكن نتج عنه "العزل السياسي" للمدينة واعتبارها في غيها تعمه.

بنغازي كمدينة مرة ثانية عليها دفع ثمن الانسدادات الوطنية، وسعار يطالب بالحرب ضدها فور الانتهاء من مهمة تحرير سرت، هذا السعار جاء ممن اعتاد "إعلان الحرب على بلاد الكفار"، لكنه في هذه الساعة يصبُ البنزين على النار دون أن يعيرهُ أحد أي أهمية، كما يبدو فإن منطلق ذلكم الاستخفاف بالمُعلن أي المرسل لكن الرسالة تتدفق عبر الميديا ويجعل منها تتصدر الأخبار، فأي استخفاف هذا والترويج يجعل الخبر والمُخبر في الصدارة؟.

وأن تصدر هذا الخبر الحال المُزري الذي تعيش البلاد فإنه من جهة ثانية نجد كل صاحب رأي مُختلف في مسألة "الوفاق" يتم إقصاؤه، فما بالك من يتحدث عن حال مدينته بنغازي، لأن الساعة لا صوت يعلو غير صوت "العزل السياسي" وصوت "النزاهة الوطنية، ومبدأ المغالبة المبدأ الذي يجتاح البلاد التي ترزح تحت "الجهوية المقيتة" في كل حدب وصوب، لكن من ينال هذه الوصمة الآن ومُنذها هي بنغازي التي يليق بها الحداد بعد أن غدى السلام المستحيل الرابع، فالحرب هي مسودة المسودات ومرة ثانية وحتى ألف: لا صوت يعلو على صوت.

• الحدادُ يليقُ بطرابلس الغرب!
سأوقِظُ، هذا المساء، شهيدًا من القبرِ
أصحَبُهُ في شوارعِ هذي المدينة
سأُبْقي عليه الدَّمَ المتخثِّرَ، والوجع المستديمَ،
وذِكْرَى احتياج، وذِكْرَى التَّخَلّي.
وأُبْقِي بأُذْنيه صوتَ الرصاصِ الذي
رَجَّهُ، رَجَّهُ، رَجَّهُ
ثمّ أَرْداهُ فينا وأقصاه عَنّا.
سأَسْنِدُهُ بِذِراعي
وأوقفكُمْ:
حَدِّقوا فيهِ! هل تجرُؤون؟
وأعلم يا إخوتي أنكم تجرؤون.
وستستكملون التّزين للسهرة التالية.

• مَريد البرغوثي
وحيدًا أسرحُ في مساء طرابلس التي كانت ساعتها حفرة الدم كما قال جدي عبدالسلام الأسمر في أهزوجته الشهيرة، وحيدًا ولا أحد أعرف من القلة التي تجوب طرابلس ساعتها بعد الجمعة السوداء التي مرت، كان اليوم الثالث من حزن طرابلس المُتسربل بالعُنف وخيبة الأمل والظن، لقد خذل الجميعُ طرابلس مرة ثانية، خيمة الذل والعنف والقتل تُخيم على طرابلس الغرب التي لا تُشبه طرابلس الشرق إلا في هذا.

لا أحد قرين تلك اللحظة غير رائحة الموت الذي يجوب طرابلس كما يُريد وكما يرغب وكما يفعل، الكل ترك طرابلس تجابهُ قدرها أكثر من نصف قرن، والكل الساعة أغلق أبوابه في وجهها، والوطنيون منهم (!) قلبهم على قلب طرابلس: البنك الوطني، ساعتها شاهدت عمر المختار يخرجُ من ذا البنكِ عاريًا إلا من غطاءِ الوجه كي لا يعرفه أحد.

ما أبخس الحياة، الحياة عندئذ كانت هي من خجل مما فعل بطرابلس التي ارتكنت عند جبانة سيدي منيدر تتلقى فجائعها، ولا أحد يُقدم العزاء، كان الحداد يليق بطرابلس لكن طرابلس لا تليقُ بأحد، طرابلس هذه لم تول أحد نظرة عند مرورها بالسادة والسيدات من يذرفون الدمع ويسكبون الألفاظ المكلومة، من لبوسهم الحزن ساعة وكل ساعة يلبسون عمر المختار المرسوم على ورق البنك الوطني.

الحدادُ يليقُ بكل من كان عاري الصدر يصدح: طرابلس العاصمة الأبدية، من بقي عاري الصدر يصدحُ منذ 21 سبتمبر 2012م انزعوا السلاح المهمة تكللت بالنصر، فإذا بالسلاح يتراجعُ عن مهمته، ويتخذُ من مهمة النظام الساقط: نشر العنف والخوف مهمته.

الحداد يليق بطرابلس التي لم تكن وحيدة الجمعة السوداء، فقد كان قبلها السبت الأسود والأحد الأسود والاثنين الأسود والثلاثاء الأسود والأربعاء والخميس الأسود، وكل الشهور والأيام التي تسربلت فيها البلادُ السواد.

الحدادُ يليقُ بطرابلس الغرب كما كان يليقُ ببنغازي، كل الأوقات تمر من غصة إلى غصة، غصة في الحلق، غصة في القلب، غصة في النفس، غصة في الروح، حتى صيرها من يدعون حبها بلاد الغصائص.

الحدادُ يليقُ بطرابلس التي تليقُ بالحياة.

ووحيدًا أسرحُ في مساء طرابلس التي كانت ساعتها حفرة الدم كما قال جدي عبدالسلام الأسمر في أهزوجتهِ الشهيرة، لكنها البلاد سارقة النار التي جذوتها لا تنطفئ، اتخذت ميدان الشهداء قبلة وتيممت بالحجر، ومن كبوة تلو كبوة نهضت، تسورت بالشهداء تلو الشهداء، كل قتيل ساعتها نهض من موته كشهيد قُتل من أجل الحياة، كانوا يعدون في الميدان فلم أعد وحيدًا كما أنا، نهض الموتى ونهضنا أحياء كما لم نكن كنا في ميدان الشهداء نذود عنا، عن طرابلس التي تليقُ بالحياة كما يليقُ الحداد بها.

البنك الوطني على خطوات من ميادين الشهداء، البعض منا قُبر في البنك والكثير منا نهض من جبانات ليبيا: سيدي منيدر وسيدي أعبيد وسيدي... إلخ، هذه الساعة.
الحدادُ يليقُ بطرابلس ساعة الحشر هذه فلكلِ ظالمٍ نهاية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• الحداد يليق بطرابلس الغرب: افتتاحية صحيفة ميادين - العدد 133 – ديسمبر 2013م