Atwasat

تحولات السيد غيلة

منصور بوشناف السبت 29 مارس 2014, 01:51 مساء
منصور بوشناف

منذ قرن الهجرة الأول وحتى الآن، ومنذ قميص عثمان وحتى قميص آخر قتلاه أمام مسجد في بغداد أو بنغازي، منذ الفتنة الأولى وحتى آخر الفتن، يواصل السيد غيلة حربه ضد الخصوم قتلاً بالسم وبالسيف وبالمسدس وبالعبوة اللاصقة.

قتل السيد غيلة عمر بن الخطاب وقتل عثمان بن عفان وقتل علي بن أبي طالب، قتل الأمير والوزير، قتل الشاعر والفقيه، قتل الطفل والشيخ، قتل المسلم والذمي، وقتل الجواري والحرائر.

تاريخ السيد غيلة الدامي لا يكتبه أحد، بل يظل متناثرًا في الكتب كلها خاتمًا بخنجره أو مسدسه أو جرعة السم سِيرَ قادة وأبطال، سيرَ مسلمين وكفار، سيرَ ورعين وفجار، فلا شيء يهم السيد غيلة إلا تدفق الدم واشتعال الفتن.
امتهن غيلة السطو على المسافرين كـ"صعلوك" قرونًا طويلة، يراقب المسافر عبر الصحراء، يتبعه عن بُعد متخفيًا، لينقضَّ عليه بخنجره المسموم وهو نائم، يقتله ويأخذ راحلته وما يملك ويهرب تاركًا جثة الضحية للذئاب والضباع والنسور والغربان.

تحوَّل العرب من وثنيين إلى مسلمين بعد صراع مرير وحروب كثيرة، وعمل غيلة طوال تلك الحرب متنقلاً بين الفريقين، يقتل من هذا الطرف ومن ذاك دون تمييز بين كفرهم وإيمانهم، فلا مهمة على غيلة إنجازها إلا القتل واستمرار الصراع.

بعد اجتماع السقيفة، دخل غيلة الإسلام وأصبح مسلمًا، لم يميزه أي من الحضور ولم يحدد أحد منهم إن كان مهاجرًا أو نصيرًا، لكنه كان هناك بين المهاجرين والأنصار ضد الفريقين ومع القتل واشتعال الفتنة.

تمكَّن من ابن الخطاب ومن عثمان ومن علي ورفع القميص لتشمر الفتنة عن غواياتها ليواصل مهنته براحة وباستمتاع لسنوات طويلة وهو يهلل، بل ويكبر لصحابي جليل يقاتل صحابيًّا أجل!
رفع المصاحف على أسنَّة الرماح وعمل وسط الهدنة قاتلاً صعلوكًا يقتل من هؤلاء وينسل ليقتل من أولئك لتشتعل الفتنة ولترفع قمصان كثيرة ولتغرق المصاحف والصحابة والتابعون في الدماء.

قتل من بني أمية ومن بني العباس ليتفتتوا شيعًا وأحزابًا، عمل أمويًّا وعمل شيعيًّا وعمل خارجًا عن الفريقين، حاملاً سيفه طاعنًا للجميع؛ حيث مقاتل الأمة المهلكة.

تحول غيلة مملوكًا أمردَ أشقرَ شديد الفتنة وتحول جارية رومية تدير قصور الأمراء والقادة، عمل ساقي خمر وراقصة وقينة وحشاشًا وتحول سيفه إلى جرعة سم وخنجر يخترق قلوب الأمراء والقادة ويقتل.

بعد هذا كله ومع بدايات العصر الحديث، تحوَّل غيلة إلى ضابط مخابرات وسيم, أشقر بعينين زرقاوين يتكلم العربية بلكنة جداته من الجواري الروميات، وواصل قتله فينا وواصل خنجره تمزيق جسدنا المتهالك.

تعرَّب الضابط غيلة وأطلقه حكامنا خلف خصومهم حيثما وجدوا مسلحًا بكاتم الصوت والخنجر والدولار.

تحوَّل الضابط غيلة إلى مجاهد ندعو له في المساجد بالنصر على الكفار وأعداء الأمة، لكن غيلة يعمل الآن فينا، يقتل رواد المقاهي والمصلين في المساجد، يقتل جنودنا وضباطنا دون تمييز.

يرفع القمصان طلبًا للثأر لتشمر الفتن القديمة عن غواياتها الجديدة، يرفع المصاحف والبيانات طلبًا للقتل وللدماء، يعبث بكل الأرواح وبكل الأطراف، غير مهتم ولا مبالٍ بمن القاتل أو القتيل.

غيلة خاتمة السير العربية كلها، إلا ما ندر؛ حيث غالبًا ما تنتهي سيرة الإنسان بعبارة "قتله غيلة"، ظل إنزيم تاريخنا الفاعل منذ الفتنة الأولى وحتى المقبل من الفتن, منذ اغتيال عمر بن الخطاب وحتى آخر ضحايا بغداد وبنغازي.

غيلة يتحول ويتبدل ولا يموت ولا أحد يعرف من يكون غيلة هذا!