Atwasat

الفلسفةُ مقاومةً وغازيةً

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 22 مايو 2016, 10:36 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

بدأت المسيحية تتسرب إلى أوروبا، التي كانت رقعة كبيرة منها تحت سيادة الإمبراطورية الرومانية، منذ القرن الأول، وأخذت تتعزز وتتقوى، رغم الاضطهاد والقمع، إلى درجة أن لم يعد ممكنا معها تجاهلها أو تهميشها بحيث أدى الأمر إلى صدور ما يعرف بـ"مرسوم ميلان" سنة 313 بعد الميلاد من قبل الإمبراطور قسطنطين الكبير، الذي اعتبر المسيحية دينا مثلها مثل أديان الأمبراطورية الأخرى. وفي سنة 380 بعد الميلاد أعلن الإمبراطور تياؤدوسيوس المسيحية دينا رسميا للدولة وفق المذهب الأرثوذكسي.

إلى جانب مقاومة الدولة واضطهادها واجهت المسيحية قوة مقاومة أخرى، ولكن على الصعيد الفكري والعلمي المتعلق بالفلسفة والعلوم.

فرغم انحسار اليونان، أو الإغريق، كقوة مسيطرة عسكريا واقتصاديا على بقاع واسعة من العالم، استمر التأثير اليوناني في جانبه المتعلق بالفلسفة والعلوم ساري المفعول في ممتلكات وريثتها الإمبراطورية الرومانية ذات الطابع العسكري. وفي هذا السياق يقول يوسف كرم في كتابه" تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط" أن الفلسفة اليونانية: "إنْ تكن انتهت بما هي يونانية فقد بقيت بما هي فلسفة".

وعن فاعليتها يضيف: "وإن عقولًا جديدة تناولتها في الشرق والغرب، فاصطنعت منها أشياء، وأنكرت أشياء، بل بسببها ضَلَّ عن العقائد الدينية لفيفٌ كبيرٌ، كل هذا مع انتهاج نهجها في التحليل والتعريف والاستدلال، ذلك النهج الذي اختصت به الفلسفة اليونانية دون سواها من مظاهر الفكر في العصرالقديم".

وفي كتابه" فلسفة العصور الوسطى" يقول عبد الرحمن بدوي بهذا الصدد أن: "تطور الفكر في العصور الوسطى [الأوربية] ظل مرتبطا بمقدار ما ينكشف له من آثار الفكر اليوناني". ومنذ البداية تفاعل رجال الدين المسيحيون المؤسسون مع الفلسفة اليونانية عداء وإعجابا وحاولوا الاستفادة من طرائقها وطرائق المنطق في تصليب جوانب الديانة الجديدة.

في التجربة المسيحية في أوروبا كان الدين المسيحي غازيا وكانت الفلسفة تقاوم على أرضها

ورغم أن مفارقات التاريخ خدمت المسيحية من خلال غزو قبائل القوط والوندال المتوحشة أملاك الإمبراطورية الرومانية الغربية وإسقاطها وما ترتب عن هذه العملية من تحول نمط الإنتاج العبودي المعتمد على قوة عمل العبيد المجانية إلى نمط الإنتاج الإقطاعي المعتمد على الزراعة وقوة عمل الأقنان حيث تراجعت الاهتمامات الفكرية وتأسست الكنيسة المسيحية وتعاظم دورها، إلا أن الفلسفة ظلت، رفقة العلوم، تقض مضجع الكنيسة وتصدع جدرانها، الأمر الذي كان يدفعها إلى تكييف نفسها مع الفلسفة والعلم ومحاولة تمسيحهما.

وفي محاولة المسيحية تدجين الفلسفة وإخضاعها أخذت الكنيسة تدرسها في مؤسساتها التعليمية بتكيف خاص بحيث تظل تحت تحكمها. أي أنها كانت تسعى إلى تحويلها من مسارها التفكيري المستقل عن الدين إلى مجرد لاهوت[علم كلام]. لكن هذا مكن الفلسفة أيضا من التكيف والاستدامة وممارسة تأثير معاكس لرغبة الكنسية على حركة الفكر والعلوم. فظهر فلاسفة وعلماء من بين جدران الكنيسة كانوا قديسين وقساوسة ورهبانا ولاهوتيين.

سنكتفي هنا بذكر أمثلة محدودة من الفلاسفة الذين يسبق أسماءهم لقب "القديس" وكانوا أعلاما أحدثوا تحولات في مسار الفكر الفلسفي والديني أيضا: القديس أوغسطين( 345- 430). القديس أنسلم( 1033- 1109). القديس بونافنتورا ( 1221- 1274). القديس ألبرت الأكبر( 1206- 1260). القديس توما الأكويني (1225- 1274).

ومن العلماء نذكر روجر بيكون( 1214- 1294) الذي كان راهبا وكان من رواد المنهج العلمي. كوبرنيكوس (1473- 1543) الذي كان راهبا هو أيضا والمعروف باكتشافه كروية الأرض وأنها تدور حول الشمس وليس كما كان يعتقد أن الشمس هي التي تدور حولها. مندل (1822- 1884) أبو علم الوراثة وكان راهبا.

*
بالنسبة إلى العالم الإسلامي كان الأمر عكس هذا المسار تماما، إذ لم يكن ثمة ميراث فلسفي من أي نوع في المنطقة التي ظهر فيها الإسلام أول ما ظهر، وبالتالي تمكن الدين الإسلامي من النمو والترعرع في براح يخلو من المقاومة الفكرية. وحين توسعت رقعة الإمبراطورية الإسلامية ودخلت ضمن رعاياها شعوب أخرى لها ميراث ثقافي أرقى من الميراث الثقافي العربي وتعرف المسلمون إلى الفلسفة اليونانية وحاولوا الاستفادة من طرائقها في ما يعرف بعلم الكلام، ثم الفلسفة، حوربت الفلسفة من قبل الدين باعتبارها دخيلة وتمت محاصرتها وإطفاء جمراتها الوافدة. على خلاف الشعر الذي نجا من الحصار الديني بسبب تجذره في الثقافة العربية.

في التجربة المسيحية في أوروبا كان الدين المسيحي غازيا وكانت الفلسفة تقاوم على أرضها، لذا تمكنت من المداورة والتحايل حتى تحقق لها الانتصار في حوالي القرون الثلاثة الأخيرة. أما في التجربة الإسلامية فقد كانت الفلسفة غازية وكان الدين الإسلامي يحارب على أرضه فحققت الفلسفة انتصارات محدودة في البداية، ثم انهزمت في الهجوم الكاسح المضاد الذي قام به الدين الإسلامي.