Atwasat

كلمات الحق قوية

محمد عقيلة العمامي الثلاثاء 03 مايو 2016, 11:21 صباحا
محمد عقيلة العمامي

"جوّع كلبك يطيعك" هذه مقولة ناقصة؛ الصحيح: "إن جوعتَ كلبك قد يطيعك، ولكنه قد ينهش مؤخرتك".

كل الرؤساء الذين جوعوا شعوبهم فقدوا في حالات كثيرة مؤخراتهم، ولكن بعضهم عادوا إلى عروشهم. معمر القذافي لم يفقد عرشه بسبب تجويع شعبه، وإنما بسبب قراءاته الخاطئة للسيطرة على أفواه الناس وما يدور في أدمغتهم، أو يعتمل في صدورهم. لم ينجح تماما خنق الكلمات ومصادرتها، فمن الحبس الانفرادي خرجت إلى الميادين كلمات كتبت على (بفرة السبسي). حكايات كثيرة عن خنق الكلمات، منها ما عاصرته شخصيا، خلال الفترة من 1952 وحتى 17 فبراير، وأغلبها مصفوف بركن أدب السجون بمكتبات العالم.

منذ أيام صادرت جهة لم تقل لنا من هي ولا من تتبع؟ عددا من صحيفة الوسط، بل ولم تخبرنا حتى عن السبب. وبحث مندوب الصحيفة بكل مكان لمعرفة من وراء هذه المصادرة ولكنه لم يفلح. أخبرنا أنه عرف من صديق له أن السبب هو ما ورد في كتاب الثورة الليبية المترجم من معلومات تخص شخصية قيادية مهمة.

عندما قررت الصحيفة ترجمة كتاب الثورة الليبية وتداعياتها، واقترحت رئاسة التحرير قيامي بهذا العمل، أمهلت نفسي أياما وقرأته. فاقتنعت تماما بأهمية ترجمته لأنه يمس مرحلة غاية في الأهمية من تاريخنا، ناهيك عن أنه مُتناول من وجهة نظر الآخر، وفوق ذلك كله مكتوب بمهنية، وأن الكثير من معلوماته لم تكن معروفة لعامة الناس. وإن كنتُ شاهدا عليها.

ولهذا اقتنعت تماما بأهمية نشره ليعلم الناس الكثير مما أخفته عنهم الأحداث. ولقد حاولت بالجهد كله، أن أستفسر ممن وردت أسماؤهم في الكتاب عن غموض أو تأويل، وحاولت بقدر المستطاع أن أنقله بما تقتضي الأمانة الأدبية، موضحا أحيانا بعض العبارات ولكن بوضعها ما بين قوسين تاركا النص مثلما ورد في أصله.

لم أهتم أبدا بغرابة النص أو طرافته أو صدقه أو حتى بعده عن الحقيقة، ذلك لأن هذا الكتاب معروض في أرفف مكتبات الدنيا، ونحن لم نطلع عليه لأنه ببساطة لم يكتب بلغتنا. وهذا تحديدا ما جعلني أقتنع تماما بضرورة ترجمته، مانحا الفرصة لكل من يريد التصحيح أو الإضافة أو التوضيح.

أعترف أيضا أنني في المسائل ذات الحساسية أو التأويل جاهدت أن أكتبها مجردة من دون تخفيفها أو إبرازها؛ ذلك بالطبع لتكون- كما وردت- ما بين يدي صاحب الشأن فيعقّب ويعلق ويصحح ويفند، فهذا حق مقدس له. لم يكن في نيتي أبدا لا الهمز ولا اللمز، لأن ما نتحدث عنه هو تاريخنا ولا يجوز مطلقا تناوله إلاّ من باب الحقيقة المجردة.

لم تنفرد فقط الحكومات الديكتاتورية بمصادرة الكلمة وإنما سلطات الكنيسة وبعض المذاهب التي ابتدعها الفقهاء

صحيح هناك الكثير من العجب والسطحية والمؤامرة ولكن ليست من مهمتي تفنيدها أو تأكيدها، فلا يحق لي تهذيبها أو تصحيحها فهي حق لصاحب الشأن. حدثت هفوة أو اثنتين نتيجة صور وضعت في غير موضعها، بسبب الإخراج الصحفي وصُححت باعتذار وفي حينها. ولكن أن يساء التأويل ويؤخذ بغير حقيقته، ذلك يعود بنا إلى زمن القمع وخنق الكلمة والحقيقة. وهذا بالتحديد هو ما كان من أكثر الأسباب في فقدان القذافي لعرشه، ورأسه أيضا.

أستاذ فاضل أسمه عزت إبراهيم عرض- ببوابة صحيفة الأهرام العدد 46120 يوم الجمعة 15/3/2013- كتاب ألفه: نيكولاس كاروليدس، ومارجريت بالد، ودون بي صوفا، عنوانه 100 كتاب محظور استهله بالآتي: " كلمة رقابة وكلمة ممنوع من الكلمات الملفتة في التاريخ البشري وعندما تقترن الكلمتان بالكتاب تصبح ذات وقع سيء ولا يمكن الدفاع عنها.

اليوم نقدم واحدا من أهم الكتب التي جمعت بين دفتيها أشهر المؤلفات في السياسة والأدب والدين أو بالأحرى الأعمال التي صودرت في سائر أنحاء العالم علي مدار التاريخ علي أرضيات سياسية أو دينية أو لأسباب تتعلق بالأعراف والخروج عن الأدب العام والترويج للخلاعة وغيرها من الاتهامات التي راحت في ركن مظلم من التاريخ مع أصحابها وبقيت الكتب الممنوعة صامدة على الرفوف وشاهدا علي أن الانغلاق والجمود لا يصمدان أمام رغبة العقل البشري في المعرفة والتحرر من قيود مصنوعة لا تنسجم مع غريزة فطرية في المعرفة".

ويسرد الكاتب حكاية 100 كتاب طالها مقص الرقيب، وصودر بعضها، وإن تداولها الناس سرا، ولينتهي أمر المصادرة بطبع مئات الآلاف منه. والعجيب أنني قرأت رواية جون شتاينبك(عناقيد الغضب) في ستينيات القرن الماضي، وما خطر على بالي أنها كتبت سنة 1939 وأنها صودرت وحرقت لا لشيء إلاّ لأنها انتقدت المجتمع الأمريكي الذي تدعو أفكاره إلى العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، في حين تموت أسرة بسبب الفقر، فكان قرار مجالس التعليم برفع الرواية من المكتبات العامة والمدرسية.

لم تنفرد فقط الحكومات الديكتاتورية بمصادرة الكلمة وإنما سلطات الكنيسة، وبعض المذاهب التي ابتدعها الفقهاء. وإن ظل الإبداع الإنساني المواجه للظلم والتسلط هو الذي يستهدفه القمع وفرض الرأي الأحادي: أعمال سولجنيتسين السوفيتي، رواية مزرعة الحيوانات لجورج أورويل البريطاني، الدكتور زيفاجو لباسترناك، والكثير من أعمال تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وعصر العقل لتوماس بن، وأولاد حارتنا لنجيب محفوظ، والإغراء الأخير للمسيح لنيكولاس كازانتزاكس، ولعل أكثر ما صدمني بالفعل هو رائعة مارك توين (مغامرات هاكيلبري فن) والغريب أيضا أن الكثير من مثل هذه الأعمال، صنعت منها أفلام خالدة.

والأكثر عجبا هو حظر طبع وترجمة الكتب المقدسة من الجهات كافة: (وحتي ظهور القرآن بالإنجليزية ونسخة أخرى باللاتينية في القرن السابع عشر لم يكن القرآن قد ظهر مطبوعا في العالم الإسلامي حيث لم تكن هناك سوى نسخ يدوية). والخلاصة أن مخارج الحروف هي في الواقع مجرد أنفاس، والنفس هو الحياه؛ فالكلمة إذن هي الحياة ولن تموت أبدا لأن كلمات الحق قوية؛ ألم يخصص لها نوبل جائزة لأن دويها فاق الديناميت الذي ابتكره والذي تصادر الكلمة به؟