Atwasat

التفكير في الحياة

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 24 أبريل 2016, 10:36 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

أثناء اشتداد الاقتتال في بعض المناطق غرب وجنوب طرابلس خلال سنة 2014 درجت على كتابة شذرات قصيرة مستلهمة من المجريات اليومية. تقول إحدى هذه الشذرات: الأمل ليس حرفتي، الأمل قدري.

وفي الأدب العربي هناك بيت للطغرائي (المتوفى 514 هـ) ورد في قصيدته المعروفة بـ" لامية العجم" شاع شطره الثاني:
أعللُ النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فُسحة الأمل ويبدو أن الإنسانية عموما، وليس كل فرد على حدة، محكومة بالأمل. فالأمل قوة نشطة لا تخمد على الصعيد الإنساني العام، وهي قوة خلاقة تدفع إلى التجاوز والانتصار على الظروف المعاكسة. وحتى على الصعيد الفردي يكون الأمل، الذي هو صنو التفاؤل، معينا على احتمال متاعب الحياة ومصاعبها، وحتى الانتصار عليها، ويحفظ التوازن النفسي ويحمي الروح من الخور والانهيار.

وللفيلسوف الإيطالي آنطونيو غرامشي قولة متداولة ينسب فيها التشاؤم إلى العقل والتفاؤل إلى الإرادة، حيث يقول:
أنا متشاؤم على مستوى عقلي أما إرادتي فمتفائلة.

قال غرامشي هذا في ثلاثينيات القرن العشرين ودوَّنه في إحدى رسائله من السجن. فبالحسابات العقلية كان الوضع السياسي في إيطاليا تحت وطأة الفاشية يدفع إلى التشاؤم المطبق، لكن تفاؤل الإرادة كان يدفع أفرادا عديدين إلى مقاومة هذه الوطأة بطرق مختلفة، سلمية وعنفية. تفاؤل الإرادة هو الذي جعل غرامشي ينكب على الدراسة والكتابة في سجنه في محاولة لتقديم شيء يساعد على التقدم.

هذا لا يعني أن التشاؤم لصق بالعقل. فالعقل يقوم بـ"دراسة إمكانية وجدوى" فعل، أو مشروع، ما ضمن ظروف ما تتصف بالصعوبة ليضع الإرادة أمام مسؤوليتها وتدرك ما يمكن أن تنجزه خلال عملها داخل هذه المعطيات. أي تدرك حجم مغامرتها. إن تخلي الإرادة عن التفاؤل والأمل وعزوفها عن الفعل المقاوم يعني الموات.

لا نعني بالمقاومة هنا تلك التي تنتهج العنف (رغم أنه لا اعتراض لنا على انتهاج العنف إذا كان سبيل المقاومة الوحيد). وإنما نعني أفعال الدفء الإنساني المقاوم والحفاظ على نبض الحياة وتعزيز الثقة بالإنسانية.

أثناء اشتداد القتال سنة 2014 غرب طرابلس بين مدينة الزاوية ومنطقة ورشفانة أخذ شباب من الجانبين على مسؤوليتهم تفقد البيوت التي هَجَّرت نيران الحرب أهلها للعناية بالنباتات والحيوانات التي لم يعد ثمة من يعتني بها ويرعاها. وثمة حكايات عن أشخاص احتفظوا لديهم بالأشياء الثمينة التي وجدوها في بعض البيوت المهجورة وأعادوها إلى أصحابها بعد عودتهم إلى بيوتهم.

في اشتداد القتال يعزف أشخاص في ريعان شبابهم عن إغراء الانضمام إلى المليشيات التي تدفع مرتبات تسيل اللعاب ويقومون بحملات نظافة في نطاق أحيائهم أو ينتظمون في جمعيات خيرية. في الظروف السيئة وقعقعة السلاح يعقد شباب من الجنسين حلقات نقاش يناقشون فيها كتبا قرأوها.

وفي ظروف مدعاة إلى التشاؤم والانزواء تبادر مجموعة من الكتاب والمثقفين من النساء والرجال أسموا أنفسهم "أصدقاء دار الفقيه حسن" بتنظيم أمسيات ثقافية شهرية، يتولون تحمل نفقاتها، مازالت مستمرة منذ سنة وتحظى باهتمام وحضور متزايدين. وفي حمأة قطع الرؤوس والترويع وعبث مجانين السلطة بالوطن وشعبه ومقدراته ومستقبله ينظم شباب معارض مفتوحة بمناسبة اليوم العالمي للكتاب.

أذكر أني شاهدت منذ عقود فلما وثائقيا عن الحرب العالمية الثانية يتحدث فيه بعض الجنود عن ذكريات الحرب، ورسخ في ذاكرتي ما رواه أحدهم. قال ما مؤداه:
تكون منبطحا في خندق تسمع انفجارات القنابل بالقرب منك وتشعر أن التراب يتراكم فوقك حتى يكاد أن يردمك وتضيق أنفاسك ولا تعود تفكر في شيء سوى الموت في أية لحظة، وفجأة ينبثق صوت بجانبك:
هل معك سيغارة يا زميل؟!

فتهدأ نفسك وتعود إلى التفكير في الحياة.