Atwasat

البعض يفضلها كحلة

محمد عقيلة العمامي الثلاثاء 05 أبريل 2016, 08:48 صباحا
محمد عقيلة العمامي

قلما نجد الجرذان في حكاية من دون أن تكون هناك مشكلة، بل وأحيانا مصيبة. يُحكى أن عداوة دامت قرونا ما بين مدينتين إيطاليتين هما بيزا ولوكا. فشلت مساعٍ عديدة للصلح بينهما، ولكن الجرذان في هذه الحكاية ويا للغرابة، نجحت في المصالحة بينهما.

تقول الحكاية:
كان مرمى النفايات يشوه مدخل مدينة بيزا فأحرقوه. فقدت الجرذان مصدر غذائها فدخلت المدينة وانتشرت في شوارعها وبيوتها. كان ذلك كابوسا حقيقيا، خصوصا بعدما عجزت السلطات عن الحد من انتشارها، وبلغت وقاحتها خطف الأطفال، آسف أعني عضهم.

وكان لابد من توفير الغذاء للجرذان قبل أن تحتل بيزا بالكامل، وجاء الحل من الجارة التي لم تعد عدوة، جاء الحل من مدينة لوكا، إذ تبرعت بأربعين طنا من نفاياتها تنقلها شاحنة عملاقة يوميا وتفرغها في مرمى النفايات السابق، فتركت الجرذان شوارع بيزا وعادت إلى مسقط رؤوسها، ولكن الجرذان مسكينة لا تعلم أن الأعداء متى اتفقوا يشكلون خطرا جسيما على كائنات الله كافة، فالعداوة بين البشر لا تُخرج إلاّ نكدا وحقدا، وإن اتفق الأعداء يكونون خطرا مبينا على الكائنات الأخرى، خصوصا تلك التي تُقلق مضاجعهم، فبيزا ولوكا اتفقتا على رش النفايات بمواد كيمائية سامة، تعقمها وتضعفها وتميتها، هذه هي نهاية الجرذان، وكذلك الحكاية.

في طرابلس الآن رجال من العالم كله، أنهم كالمرتزقة ولكنهم ليسوا مرتزقة هذه حقيقة تعرفها أوروبا والأمم المتحدة ويعرفها الليبيون

في طرابلس توحد الناس ذات يوم سلميا ثم واجهوا فئة أساءت حكمهم، فتخلقت بينهما عداوة كبيرة، وأرغموهم على الرحيل، وعزلوهم سياسيا، ولكن هؤلاء الذين اتحدوا، ثم عزلوا ورحّلوا، تخاصموا فيما بينهم. حك بعضهم رؤوسهم وفكروا، وتذكروا أن العداوة قد تُطير رؤوسهم جميعا. قرروا أن يحافظوا على مكتسباتهم، بتقوية مراكزهم وحراسة ثكناتهم، خصوصا وأنها ممتلئة بسلاح يفوق كثيرا عدد الأيادي التي تستطيع أن تستخدمه. حك أحد الذين حكوا رؤوسهم رأسه، وقرر أن يستعين بأيدٍ تحتاج إلى حمايته، فيحميها ويستفيد منها. خطر له أحد رفقائه المتسلطين على بوابة ليبيا الجنوبية.

يقال إنه انفجر ضاحكا، مأخوذا بالفكرة التي خطرت له، وسحب تلفونه السري جدا، واتصل برفيقه في الجنوب، وطلب منه أن يبعث له بمن يريد الوصول إلى أوربا عبر شواطيء ليبيا، شريطة أن يكون مطيعا ومحتاجا وعلى المبدأ، وكلفه أن يعد له عقدا يعمل بموجبه، حتى يتحسن الجو، في تنظيف شوارع البلاد، ويقوم بمهمات أخرى، وكله بثمنه، الذي يوفر له مصاريف رحلته إلى الجنة.

وصلت أعداد كبيرة منهم. أعدت لهم بطاقات وأعطوهم لباسا موحدا وقبعات كتلك الصفراء التي أعطوها للعمال في بنغازي، في منتصف فبراير 2011. يقال أيضا أنهم علموا القادرين منهم الراغبين من هؤلاء الجرذان، آسف أقصد المرتزقة، لا حول الله أقصد العمالة الوافدة من الصحراء، استخدام السلاح ورفعوهم مرتبة أعلى من أولئك الذين يريدون الوصول سريعا إلى (فيا فينتو) أو لا يتفقون مع قناعات وأفكار أصحاب المال والسلاح والثكنات.

يقال أنه في طرابلس، الآن، رجال من العالم كله، أنهم كالمرتزقة، ولكنهم ليسوا مرتزقة، هذه حقيقة تعرفها أوروبا والأمم المتحدة، ويعرفها الليبيون مثلما يعرفون أسماء أولئك الذين يُسهلون مهمة سفرهم إلى طرابلس. وهم من أفريقيا السوداء، ومن آسيا الصفراء، وأوروبا الحمراء، ولكن الغالبية سوداء. والناس في طرابلس يرون بين حين وآخر عمال نظافة، وإن كانوا ليسوا عمال نظافة تماما، يرتدون زيا موحدا وطواقي ملونة وينظفون الشوارع الرئيسية فقط، ويختفون في الليل في معسكرات محروسة تماما ومنتشرة باتساع طرابلس.

ولكن المراقبين يقولون إن بعض أصحاب هذه الثكنات، بعد أن وصلتهم أخبار مؤكدة عن مجيء السراج وحكومته إلى طرابلس، بدعم من العالم كله طلبوا من معاونيهم التخلص سريعا ممن وصلوا بالفعل إلى معسكراتهم من هؤلاء المرتزقة، الذين ليسوا مرتزقة تماما.

ما أبعد الطريق إلى الجنة الأوروبية وما أصعب تحقيق أحلام المسحوقين

والمشكلة، مثلما يقول المراقبون، غاية في الخطورة، إذا أخذنا ما أعلنه وزير الخارجية الفرنسي على محمل الجد، وهو أن "عمال النظافة" ذوي الزي الموحد، أو الذين لا يرتدون زيا موحدا، يبلغون حسب تقديراته أكثر من 700 ألف! يعني حوالي ثُمن سكان ليبيا، ولو افترضنا مثلما يقال أنهم مدربون على حمل السلاح، فإن ذلك يعني أن جيشا مختلف الألوان؛ لا يفهم لا اللغة العربية ولا اللهجة الطرابلسية، البحر من أمامه والصحراء من خلفه، وهو مسلح ومدرب، يقف استعدادا للحفاظ على رأسه، بعدما تُرك وحيدا في الشارع، من دون معسكر يأويه.

الحق أنه جاء من قريته سعيا وراء لقمة العيش، ولكن ماذا بمقدوره أن يفعل، إن لعلع الرصاص من فوقه وحوله، وتحت أقدامه؟ إذا ما تخاصم الفرقاء المسلحون في طرابلس، أو تخاصموا مع من تعهد بحماية حكومة الوفاق؟.

وما أبعد الطريق إلى الجنة الأوروبية، وما أصعب تحقيق أحلام المسحوقين، خصوصا شباب أفريقيا الذين يحلمون بنجاحات في كرة القدم والرقص، والموسيقى والملاكمة. وبرفيقة شقراء، وإن كان بعضهم يفضلها كحلة.