Atwasat

ذهب في سوق الترك

محمد عقيلة العمامي الثلاثاء 29 مارس 2016, 10:15 صباحا
محمد عقيلة العمامي

بعد عامين من بدء تصدير النفط الليبي، أخذت غمامة الفقر تنقشع شيئا فشيئا. سنة 1963 ضاعفت حكومة المملكة المرتبات، وأقرت علاوة للعائلة وللسكن. ولم تعد ليبيا ثاني أفقر دولة في العالم. سنة 1964 سافرت في رحلة سياحية إلى القاهرة، ومنذ سنة 1965 صرت مثل شباب ليبيا يقضون إجازتهم السنوية في اليونان والقاهرة وبيروت، بل وفي إيطاليا وبريطانيا.

في السنة نفسها تذمر الشاعر الكبير جعفر الحبوني وكتب قصيدته المشهورة: "وين ثروة البترول يا سمساره *** اللي ع الجرائد نسمعوا في أخباره".

وانتشرت في ليبيا وصارت حديث الناس في المقاهي والمناسبات، فلقد أبرزتها في حينها الصحف كافة، بما فيها الجرائد الحكومة: برقه، طرابلس وفزان. وظل الشاعر الكبير مُعززا مُكرما في مناسبات طبرق كلها، يتصدر مواعيدها من دون أن يُعنفه أو يُهدده أو يُحقق معه أحد، بل يقال أن فخامة رئيس وزراء البلاد، آنذاك، المرحوم حسين مازق أهداه على الملأ سيارة(فولكس واجن) عرفانا وامتنانا، وبالتأكيد تشجيعا لبقية الشعراء.

حسنا، أنتم بالتأكيد تعلمون ما حدث في عهد القذافي، وليس من داع لأن أخبركم عما حدث لحرية الرأي، ولا أنوي تناولها بأي شكل من الأشكال. فقط أريد أن أقول أن ما حدث في فبراير، وأترك لكم أن تسموه ما شئتم: ثورة، انتفاضة، أو كارثة، ذلك لا يعنيني. يهمني فقط أن أذكركم أن واحدا من أسباب انفجار غبن الناس في فبراير هو تكميم الأفواه وخنق الكلمة والرأي.

حسنا، مرة ثانية، يفترض أن ما حدث في فبراير ضمن لنا، بعد خمس سنوات عجاف، حرية الرأي والكلمة. وعليه أنا لا أريد أن أتحدث عن الحكومات، التي صارت تتوالد في بلادي كالفطر، ولا عن المزايا والعطايا والمرتبات وبدل المبيت والسيارات. وفنادق الخمس نجوم لكل من وصل، أو تمسح بمجلس حكومي يفترض أنه يمثل الشعب، الشعب الذي صار "يقطّع في الوجابي" إن افطر لا يتغدى، وإن تغدى لا يجد ما يفطر به في يومه التالي.

أموال الناس المودعة في مصارفنا صرفت من أجل (الثورة ...والثوار) وصرنا دولة- عمليا- مفلسة، ومن لا يريد أن يصدقني يذهب إلى أية مدينة ليبية، وسيرى بعينيه إفلاس الناس، وانكسار أعينهم والقهر، والرعب والخوف على رؤوسهم، وعلى أطفالهم من الخطف والرصاص العشوائي، ويشاهد الثكالى ومبتوري الأطراف وقبور الشهداء وكل ذلك- كما يقولون- يهون من أجل الوطن.

الخلاصة أن الذهب مازال في مكانه منه ما هو ممهور بختم بنك ليبيا مثلما كان يسمى في عهد المملكة

حسنا، مرة ثالثة، أنا أريد أن أقول ما يشبه شعر الحبوني، ولكنني لا أدري ماذا سيحدث؟ هل ستعطيني واحدة من حكوماتنا سيارة، أو تعطيني على رأسي: خبطه ما بين أُذنيَّ مثل ما قال لي ذات مرة جار لي من (الشيشان).

فلقد طرح أحد الرفاق موضوعا أو قل كارثة، في جلسة أسبوعية اعتدناها لمناقشة أمور بلادنا، مفاده أنه سمع عن سبائك ذهب ممهورة بختم مصرف ليبيا المركزي ينادي عليها دلال في سوق الترك! وفي تركيا أيضا.

لا يهمني كيف خرجت من خزائن المصرف، ولا من هو (خانبها) ولكن من حقي أن أقول شعرا بالمناسبة، أستهله مستعينا بمطلع قصيدة الحبوني:" وين ذهب مصرفنا يا سراقه"؟. من فتح الخزائن؟. كيف وصل سوق الترك؟.

وبالطبع أترك القافية والبناء الشعري للموهوبين. مقابل فكرتي هذه أعلن أنني لا أريد سيارة فولكس، ولا غيرها. أتمنى فقط ألا يطرق بابي أحد منهم، لا في منتصف الليل، ولا في منتصف النهار، أيضا.

أريد أن أقول، لمن لا يعرف، أن الذهب الموجود في خزائن مصارف دول العالم، هو ببساطة الضمانة التي بموجبها تتعامل الدولة، أي دولة، مع بقية الدول. هو الضمانة لإصدار العملة وقيمتها، وبالتالي قوة البلد بما تحويه خزائنها منه.

في مصرف من مصارف مدينة البيضاء ذهب لحكومة ليبيا مُودع في خزائن مُحكمة منذ حكم الدولة السنوسية، لم يمس منذ إيداعه، بل حكومة سبتمبر (الظالمة) زادت عليه. وقد قامت مُحاولات رخيصة أثناء الأزمة المالية الي واجهت المجلس الوطني الانتقالي، سنة 2011، بشهادة أحد أعضاء المجلس، وكادت أن تتم الموافقة على تسليمه إلى دولة قطر كضمانه لأموال كانوا في حاجة ماسة لها، غير أن أحد أبناء ليبيا الشرفاء، سليل أحد مجاهدي ليبيا، تصدى لهذه المؤامرة بكل صرامة، وشهودها مازالوا أحياء بل وناشطين أيضا.

الخلاصة أن الذهب مازال في مكانه: منه ما هو ممهور بختم بنك ليبيا، مثلما كان يسمى في عهد المملكة، ومنه ما هو ممهور بختم مصرف ليبيا المركزي، مثلما تسمى من بعد سبتمبر. أما في عهد ما بعد فبراير، ذهب ليبيا يسرقونه ويهربونه، بل يبيعونه جهارا نهارا في عاصمتنا (الأبدية).. وما تقول: "طق إلاّ وهي حق".

الناس قهرهم العجز، مغيبون. حكيت لصديق عزيز لم أره منذ زمن عن قصة الذهب هذه، تعجب كثيرا وقبل أن نفترق، أعني بعد تحليلاتنا، تم الحديث عن المخابز وسعر الدولار وبضعة أشياء أخرى، انتبهت إلى أني لا أعرف سعر أوقية الذهب، فسألته من باب حب الاستطلاع: "كم سعر الأوقية؟" أجابني وكأنه في غيبوبة: "والله أنا لا أعرف إلاّ سعر القرش فقط! عمري ما اشتريت أوقية!". فهمت ماذا يعني. فقلت له ساخرا: "اسكت قبل أن يسمعك أحد من المكافحة!".