Atwasat

أنصاص تن بالهريسة

محمد عقيلة العمامي الثلاثاء 22 مارس 2016, 10:32 صباحا
محمد عقيلة العمامي

الخيال مُشارك فعَّال في الفهم، وأحياناً عدمه. ولعل إخواننا التوانسة أبدعوا بتعبير: "تحب تفهم أدوخ"، فخيال القاريء يتكيء معه على الأريكة، أو يجلس بجواره في المكتب، أو المطارات أو صالة طبيب الأسنان وإن كان الخيال لا يحب أبداً الانتظار كثيراً في تلك الصالة.

أحياناً تشاهد قارئاً يطوي الكتاب فوق ركبته وتأخذه نوبة ضحك مكتوم، الحقيقة أن النكتة جاءت من خياله، وهي التي جمعت الكلمات وحولتها إلى شريط فكاهي. أعترف أنني متعمد ألاّ أتخذ من رواية مأساوية مثلاً لموضوعي هذا تجنباً للتذكير بالكوميديا السوداء التي تمر بها بلادنا.

والقارئ الجيد فنان، رسام ساخر، ومخرج تلفزيوني ومسرحي، بحسب النص الذي بين يديه، فلو أن النص للمرحوم صادق النيهوم عن الحاج الزروق والحاجة امدلله مثلاً، فإن الخيال يستعين بموهبة المرحوم محمد الزواوي يرسم المشهد كاملاً لرفيقه قاريء الكتاب، أو يستعين بالمخرج خالد الشيخي أو داوود الحوتي ويقدم له مسرحية" بوسهمين" كاملة مستعيناً بصالح الأبيض، أو خالد الفاضلي أو ميلود العمروني.

ليس هناك قاري لا يُحوّل النص إلى مشاهد كيفما يريد، وبحسب روح الدعابة التي وهبها الله له. ولقد قلت في أكثر من مناسبة إنني لم أكن مهتماً، أبداً، بالسياسة خصوصاً في الحقبة القذافية،لانشغالي بأنشطة أخرى! ولكن من بعد فبراير وجدت نفسي، ولا أدري كيف؟ محللاً سياسياً. ولكن لماذا اخترت لكم هذه المقدمة؟

لأن اهتمامي الجديد بالسياسة، هو الذي أوقع في يدي كتاباً سياسياً إلى حد كبير؛ كتبه مجموعة من صحفيين ومراسلين ومحللين أجانب عن الثورة الليبية وتداعياتها. أخذتني صوره، وتذكرت الكثير منها، ولغبائي سخرت حينها ممن كانوا يتمسحون، باستثناء قلة، حول هؤلاء الإعلاميين الأجانب! لم يخطر ببالي أبداً أنهم كانوا يسوقون أنفسهم، ويتبرعون بمعلومات لهؤلاء الكتاب من وجهة نظرهم بل وتخدم أيديولوجياتهم في المستقبل.

منذ أيام دعت نخبة إلى تأسيس جبهة مفتوحة لكل الليبيين، هدفها لم شملهم بمختلف اتجاهاتهم. هدفها قيام الدولة الليبية

فنحن من دون شك نعتبر ما يكتبه شاهد عيان لا علاقة له إلاّ بالحدث فقط. ولا شأن له بتداعياته، هو حقيقة لا تقبل الشك. ولكن ليس هناك مراسل في الدنيا لا يحتاج لأبناء البلد ليعينوه على لملمة بعض من المعلومات الغائبةـ فيستعين بهم، وعندها يدس شاهد العيان كليمات، غالبًا ما تحوله إلى ثائر، وغالباً ما يستثمرها في المستقبل على نحو ما. فماذا حدث؟

ترجمت فصولاً من الكتاب، الذي أشرت إليه، والذي نشرته الصحيفة العالمية لدراسات الشرق الأوسط، ثم طبعته بمطابع جامعة أوكسفورد. الحقيقة أن إدارة صحيفة الوسط رأت أن ننشر حلقاته مبتدأ إياها من ملابسات تأسيس المجلس الانتقالي، ولكنني أرى أنه من الأهمية أن يترجم الكتاب كله لأن الكثير منه، هو في الواقع، وثيقة مهمة يتعين أن تُضمّن في تاريخنا. ولذلك سوف أعود وأترجم بعون الله بقية فصوله.

ما لفت انتباهي كما قلت لكم، أولئك الذين ( زرّقوا) كليمات وجدوها أمامهم، أهلتهم الآن لقيادة البلاد، وسوف تؤهلهم للحصول على نياشين عن دورهم في ( ثورة 17 فبراير)، الذي صرح أكثر من تصدروا المشهد في بدايته أنهم لم يكونوا ينوون ثورة، وإنما إصلاحات فقط، ولكن ومن بعد تحرر ثلث ليبيا، يرى القارئ عدداً ممن ادعوا أنهم "ثوار" وكانوا يخططون لهذه الثورة بل وتصدروا مشاهدها، ونظموا ونسقوا واجتمعوا، وإن لم يجرؤ أحد على الاعتراف بتخطيطه مع جهات خارجية! لن أدخل في التفاصيل فهي متروكة للقاريء وسيجدها ما بين سطور من كتبها.

الشيء الثاني هو أن معظمهم، إن لم نقل جميعهم، كانوا يعملون مع نظام القذافي، بل منهم من كان جزءاً فاعلاً مُهماً منه. ومع ذلك عملوا بالسبل كلها على إقرار مصيبة قانون العزل السياسي، الذي بدأنا نعرف كيف نُفذ في كواليس المؤتمر الوطني المؤقت، وتأكيداً لقناعتي كتبت أكثر من مرة بضرورة الاستعانة بالخبراء الليبيين المؤهلين، الذين كانوا يُديرون الكثير من مؤسسات كانت قائمة حتى سقوط النظام.

ولكن لم يُنصت أحد لمثل هذا الرأي الذي أعلنه الكثيرون غيري من المهتمين، فالمصيبة جاءتنا ليس ممن كلفوا بالوظائف القيادية العليا، ولكن ممن تسلطوا على مفاصل الدولة الإدارية، فكانوا أداة تنفيذية لما تخططه الأيديولوجيات، التي لم تعلن عن نفسها إلاّ بعد أن صارت مفاتيح الدولة وأسلحتها عند كتائبهم.

منذ أيام دعت نخبة إلى تأسيس جبهة مفتوحة لكل الليبيين، هدفها لم شملهم بمختلف اتجاهاتهم. هدفها قيام الدولة الليبية من دون فكر الملكية، ولا سبتمبر، ولا فبراير، أو أي فكر متطرف، ومن دون دعوة جهوية، أو قبلية أو عرقية.

دعوة ليبية وكفى تدعو للسلام والمساواة وحقن الدماء، تتوافق على نظام يجمعها تحت مظلة بيضاء واحدة، يبدد الغمامة ويخرجهم من مصيبة ليبيا، فقضيتها لم تعد صراعاً على السلطة وإنما على وطن يضيع من بين أيديهم، وذلك لا يتحقق إلاّ إذا اعترفوا بقناعات الأطراف الأخرى، التي يحق لها أن تؤسس تكتلاً يشارك في السلطة وتداولها، بيد أنهم يتحدون جميعاً ضد كل من يريد أن يفرض قناعاته بالسلاح والقتل والتنكيل. هذا في رأيي خيار صائب جداً وهو في الحقيقة ما نحتاجه في هذه الظروف المرعبة والقذرة أيضاً.

أقول ذلك، لأنكم ستكتشفون ما بين سطور مقالات الكتاب الذي أشرت إليه علاقة بما قلته لكم عن بعض شهود العيان. وأعترف أنني تحسرت كثيراً، لأنني أنا أيضاً كنت شاهد عيان من البداية، ورأيت من تصدى للرصاص بصدره العاري، ومن فجَّر نفسه، ليلج الآخرون باب الكتيبة، ومن منح السلاح إلى مصراتة، ومن باعه لهم، ومن كان يجمعه، ومن كان يتسوله، مدعياً مساندة الثوار، ثم باعه لهم، بل أعرف حتى من سرق سلاح رفاقه في الجبهات وباعها، وأعرف من نقله بجرافات الصيد ومن قبض ومن لم يقبض، بل من اشتراه من حر ماله، وخزنه، بقناعة وشجاعة بين غرف أطفاله، ثم شحنه على حسابه، ومن سافر به أنا أعرف كل ذلك.

بل التقيت بعض الإعلاميين الذين شاركوا في إعداد الكتاب المشار إليه، وأن أحدهم يعرفني شخصياً، وقد أعطيته (ساندويش تن بالهريسة) من الأنصاص التي أحضرتها من مطعم الديوان عندما كان هناك اجتماع مهم، قبيل تحرير بنغازي بالكامل، ولم يستطع المشاركون تناول وجبة الغداء، خارج صالة الاجتماعات، فأمرت لهم بهذه الأنصاص ومعها بيبسي! ولكن ذلك الإعلامي، سامحه الله، والذي كنتُ أعتقد أنه صديقي لم يوثق، للأسف، هذه الحادثة.
يالله ياما راح!