Atwasat

( وصلنا وين مكاري وصل) قصة الوليّ الأسود...

عبد الوهاب العالم الأحد 06 مارس 2016, 10:24 صباحا
عبد الوهاب العالم

(القوبي والبوري والقوديا والكسكا) هل يذكرك هذا بأمر ما؟.. ماذا عن: ( الزيارة والبخور السوداني وحلوى التكرة)؟. لا شيء؟ طيب، هذا سيقرب الموضوع أكثر: (البوسعدية، وسيدي نصر وسيدي مكاري) رضوان الله عليهما.

حتما ستجد في هذه الأسماء قواسم مشتركة تدلك على ملامح أفريقية شكّلت جزءا كبيرا من طرابلس التي نعرفها اليوم: سواء في هندسة مبانيها أو أسماء حوماتها. وحتى في كلامنا اليومي. فكم مرة سمعت في حياتك كلمة: عبد، أو ذلك المثل الشعبي"بوك حدمدم يعطي ويندم"؟.

إن كلمة بوك في المثل يُقصد بها أبوك، وبوك- أو أمك للمرأة- لقب احترام يطلق على كبار السن الزنوج في ليبيا، وهو ما يجعل مجتمعنا على درجة كبيرة من التعقيد بجمعه كلمة عبد للاحتقار مع لقب بوك أو أمك للاحترام في وصفه لفئة واحدة وهي السود!

على كل حال وصل هذا الاحترام- في ظروف خاصة- حد التقديس، في نموذج الولي سيدي نصر وبصورة أكبر في شخصية الولي المشهور سيدي الماكاري.

وترتبط المصطلحات في أول المقالة، بشخصية سيدي الماكاري الذي يعده الكثيرون رمزا اعترفت به أعلى سلطة في الدولة، دعك من أنه أبرز مظاهر التنوع الثقافي في العاصمة... لكن كل ذلك نُسي خلال السنوات الخمس الأخيرة، ولهذا يتعجب أصدقائي كلما أحكي لهم عن كرنفال المكاري الذي يقطع شوارع طرابلس كل سنة. منذ قرنين من الزمان. والذي كنت محظوظا بأن أكون جزءا منه.

دعني أشرح لك ما أقصده بالضبط : في يوم 27 من شهر رجب. تخرق هدوء المساء قرعات طبلة رتيبة تأتي من قلب محلة(زاوية الدهماني) مُنذرة بقدوم كتلة سوداء تكاد تميّز من الهياج لكنها تحافظ في نفس الآن على بطء سيرها.

في مقدمة الموكب مراهقون يتشقلبون في الهواء. وموجات بخور كثيفة تختلط بأهازيج حماسية تدعوك للرقص رغم مفرداتها المبهمة. لتدخل بعدها الاحتفال الذي يتوسطه(السنزق)*وهو راية الكرنفال، وحول السنزق يرقص الشباب رقصة المكاري البديعة التي قيل أن الشيخ كان يرقصها حينما يعتريه الوجد. حركات تطابق إيقاع النوبة، قفزة على رجل تعقبها الأخرى مع انثناءة الذراعين وهز الجسد حسبما تملي الألحان.

لازالت أذكر تباهينا نحن الشباب بإتقان الرقصة تحت أضواء الشارع التي تصفع الجباه المكسوة بالعرق وتُضيء ابتسامات الشبان كلما اقتربت منهم الصبايا بضفائرهن الطويلة التي تتناثر مع رقصهن وغنائهن البديع!
تكرر هذا المشهد طيلة 200 عام، متكيفا مع تقلبات الأوضاع، بيد أن الكرنفال أو الزيارة- كما تُسمى محلياً- لم تبقَ على حالها أثناء الفترات العصيبة التي كانت أبرزها سنة 1935عندما منعت(حكومة ليبيا الإيطالية) الاحتفالات الدينية التي تجوب شوارع المدينة(1/ 341)**
لكن أسوأ ما حدث للمكاري كان سنة2011 حين مُنع الناس من الزيارة وإقامة الاحتفال حتى اليوم.

إن الأسباب التي جعلت سكان المدينة يحتفلون في هذا الوقت من كل عام. وعلاقة الزيارة بشخصية المكاري ملأت رأسي بالتساؤلات. وشرعت في البحث عن الأجوبة، وكان البحث صعبا لندرة المراجع والمعلومات الأكيدة، فاعتمدت على ثلاث روايات شفوية أولها من عمتي نزيهة وهي إحدى المسئولات على الزيارة، وتسجيل صوتي للفنان مختار الأسود الذي شارك في المكاري، ولقاء مع الشيخ محمد فاروق زغوان شيخ زاوية المكاري، بالإضافة إلى المعلومات المتناثرة في الكتب. وبعد التورط أكثر في البحث علمت أن زيارة المكاري لم تكن مجرد احتفال ديني، وإنما ظاهرة عميقة أفرزها تنوع مجتمعنا. تنوع نعيشه كل يوم، ونجهل أبعاده المهمة.

ثمة روايتان أساسيتان حول هوية المكاري، الأولى: يقول فيها الراحل مختار الأسود: أن سيدي المكاري، أو محمد ماكاري برنو عاش في القرن 19 ميلادي، بمدينة طرابلس بعد أن جاء من إقليم برنو غرب أفريقيا حاملا تراثه الموسيقي والروحي إلى المدينة الساحلية، وكان يعقد لقاءات (للسودانيين) في محلة زاوية الدهماني كل يوم أحد وهو يوم العطلة.

وتقول الرواية الثانية أنه كان وصيفا- خادما- يعمل في سانية أسرة بن عاشور بزاوية الدهماني، وكانت له كرامات ظهرت بعد موته بالسانية التي بها ضريحه(2/ 289)
نستخلص من الرواية الأولى، أن المكاري أتى من السودان الأوسط (3/ 129) من إقليم برنو الذي كان جزءا من إمبراطورية برنو كانم( التي تشمل تشاد والنيجر ونيجيريا)، وأنه لم يكن الوحيد الذي أتى من جنوب الصحراء وإنما كان أحد "السودانيين" الذين جاؤوا إلى طرابلس من مختلف أقاليم السودان وفزان و ترهونة ومسلاتة وزليطن وزوارة منذ وقت طويل وعاشوا في أحياء خاصة بهمGhetto عرفت بين الأهالي بـ"قرى السوادنيين"، كانت أبرزها في محلة الظهرة، وقضى هؤلاء حياتهم في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين في زرائب بائسة، حيث عمل أغلبهم في مصنع تكبيس وتصدير نبات" الحلفا" مقابل وجبة غداء أو بالكراء(21/4)، ثم نجحت هذه القرى تدريجيا في التمازج ضمن خليط طرابلس الكبير، وصارت مع غزو الحداثة أحياء بعمارات حديثة وشوارع معبدة تمتاز بالحيوية مثل الظهرة وباب عكارة وباب تاجوراء والمدينة القديمة... وحتى اليوم تقطن عائلات في تلك المحلات تحمل لقب السوادني أو التكروري أو البرناوي مثل جدتي لأبي( نسرية البرناوي).

ونفهم من الرواية الثانية عن هوية المكاري: أنه ولي صالح سواء في حياته أو بعد موته كما أن له شعبية تعود على الأرجح لنسبه أو مكانته، وأخبرني الشيخ محمد فاروق زغوان أن اسم المكاري تحريف لكلمة( مكاروي) التي تعني العامل بالكراء، وهؤلاء كانوا كثرا في طرابلس.

إذ يتجمعون في مكان سُمي" الموقف" ليستأجرهم من يحتاج لخدماتهم مقابل بعض الطعام ومن هنا ظهر المثل الشعبي " المكاروي ببطنه" أي يعمل ليسد جوعه!. ومن هنا جاء لقب المكاري، وعن تحول العامل بالكراء إلى ولي صالح، يقول الشيخ زغوان: أن أحد الجيران وجد المكاري نائما والبهيمة تدور على الساقية وحدها، فأخبر الجار صاحب السانية بما رآه، فلما شاهد صاحب السانية الأمر العجيب اعتبرها كرامة، عندها قرر المكراوي ترك العمل، وطلب من صاحب السانية أن يعطيه مكانا في السانية، فخُصص له الفناء الذي به الضريح اليوم، وربما في ذلك المكان أقام المكاري اجتماعاته بأهل السودان، تمهيدا لما سيكون احتفالا كبيرا بعد موته، بيد أننا لا نعرف فحوى هذه الاجتماعات، ولعلها كانت دروسا دينية يلقيها الشيخ على مريديه.

ولا أعرف دلالة للرداء الخاص بالقوديا أو السوط، وإن كان بديهيا أن السوط يمثل السلطة

والواقع أنه كانت ثمة حاجة قوية للشيوخ في ذلك الوقت، فكان وجوده سندا للناس في معاناتهم اليومية... فسواء كان المكاري شخصية حقيقية أم خيالية. نستنتج من بحثنا أن حياة أولئك الطرابلسيين في القرى السودانية استوجبت ظهور قدوة روحية لمقاومة القهر والعنصرية. فكان المكاري!.

وتظل تفاصيل كثيرة مفقودة في حياة الرجل وأصوله. لكننا نعرف على الأقل أين كان يعمل/ يسكن وهو بزاوية الدهماني، حيث تظهر الزاوية المكارية ببياضها الناصع وزواياها المدببة على طرف مستشفى العيون. والزاوية عبارة عن جامع ومكان لتعليم القرآن(الخلوة) وفناء به مأوى وضريح الشيخ الذي يبلغ مترين ونصفا تعلوه قبة خضراء صغيرة، يقول الشيخ محمد فاروق أن جده الكبير شيدها منذ 200 عام تقريبا وفاءً لندر قطعه عندما ضاع من قافلة تجارة كانت تتجه إلى" بر السودان" فأخذ" ينده"، أي يستغيث بالله وعباده الصالحين لنجدته، حتى أستجيب لندائه ووصل بر الأمان، ولما رجع لطرابلس بنى مكانا لتحفيظ القرآن.

والزاوية كما يقول الشيخ مفصولة عن الفناء الذي به الضريح، لكنها متصلة به تاريخيا فقصة نشأتها التي تعود لبر السودان تتفق مع وجود الشيخ الأفريقي الراقد بفنائها. كانت هذه الزاوية أول مكان درست فيه القرآن، ولا تخلو ذكرياتي عنها من" الفلقة" ودعائنا للشيخ كل خميس بأن: يحط الله عظامه في الجنة!

ورغم تولي الشيخ شؤون الخلوة إلا أن زاوية المكاري انفردت عن جميع الزوايا في ليبيا بقياداتها النسوية فلم يكن ثمة شيخ أو وكيل للزيارة وإنما سيدة أو(قوديا) كما عُرفت محليا وهو لقب يعني الشيخة أو الرئيسة، والقوديا سيدة عجوز تقود موكب الاحتفال وترأس طقوس الحدث حتى نهايته، وتتمتع القوديا بإجلال مقرون بالخوف من قبل سكان المدينة لما لها من كرامات ومكانة اجتماعية بما أنها تجمع السود في بيتها- كما شاع عن المكاري جمع الناس عنده كل أحد.

في ذلك الوقت الذي لم يحظَ فيه أغلب الرجال بحقوق إنسانية، تتمتع القوديا بمكانة روحانية واجتماعية عالية، ولظروف كهذه، يمكننا تعليل ظهور لقب" أمك" للعجوز السوداء كاحترام لها!
ويمكننا تتبع وجود القوديا في الثقافة البرناوية التي منحت المرأة حقوقا لم يألفها المجتمع الليبي، خصوصا نساء الطبقة الحاكمة، حيث للملكة الأم ( الماجيرا) سلطة موازية للملك وللإمبراطورة( القوسما) صلاحيات واسعة في الحكم،(6/ 475) وحافظت البرناوية على هذه الحقوق حتى بعد دخول الإسلام، ولعل مرجع ذلك كما يقول الباحث ك.

بانيكار: لتأثير الطوارق وغيرهم من البربر في الإسلام ومعاملته للمرأة الأفريقية( 6 /476)
وكما القوسما في مملكة برنو، كانت القوديا في طرابلس قائدة، تعلن بدء الاحتفال وتقيم "سهرية المكاري" قبل يوم الزيارة، وتحيي طقوسا قديمة مثل البوري الذي يعود منشأه لبلاد الهوسا(6/ 496)
وتستلم القوديا منصبها بأن توصي القوديا المتوفاة بوريثتها، كما جرى مع قوديا الظهرة الحاجة حواء التي ورثت المنصب عن والدتها عائشة الكبيرة التي ورثته بدورها عن أمها( كاجو) وبالمناسبة تعتبر قوديا محلة الظهرة أهم قوديات طرابلس ولها أول أحد في موسم الزيارة(247/5 )،
وقد تُسلم القوديا مهامها لإحدى القادرات بأن "تعطيها" إياها في مراسم تقليدية قديمة، وفي السنوات الأخيرة أعطيت هذه المهام لعمتي نجية رحمها الله، التي كانت تشرف يوم الزيارة على سير الموكب الكبير.

فالقوديا أهم عناصر الزيارة، كونها المايسترو والموجه، وهي تبدو كذلك بالفعل، إذ تصف عمتي جدتها القوديا(عيشاتو) بأنها ترتدي زي" الإزار" وهو قطعة قماش ملونة فوق فستانها المزهر... وتحمل في يدها اليسرى سوطا وتمسك في اليمنى آلة"الشكشاكة" الموسيقية التي تعد جزءا هاما في أوركسترا المكاري.

ولا أعرف دلالة للرداء الخاص بالقوديا أو السوط، وإن كان بديهيا أن السوط يمثل السلطة، أما الشكشاكة فهي كما تقدم إحدى الآلات الموسيقية المستعملة حتى اليوم في النوبة.

وبمناسبة الحديث عن الموسيقا، لم أجد دراسة ليبية للوزن الموسيقي الخاص بالمكاري سوى تسجيل صوتي للأستاذ مختار الأسود يوضح بأنه وزن ينتمي لألحان السودان يُعرف محلياً بالعلجية والمخمر، وتستعمل فيه آلات خاصة كالجانجا( الشكشاكة) والقراعة( قرعة جوفاء بها حصى تحدث صوتا عند هزّها) والدنقا والهنقا وهما نوعان من الطبل صغير الحجم وآلة تدعى الكالو، بالإضافة للباز والزكرة والطبلة.

كل هذه الالآت تعطي نوبة المكاري طابعا أفريقي الروح ممزوجا بنكهة أندلسية نجدها في نوبات المالوف، وأبرز الأهازيج التي تنشد في زيارات الماكاري هي:
العادة يا رسول الله*** العادة يا حبيب الله
قوبي بابو كايا***قوبي مونا سلّما***قوبي سلام علينا
يا كالي كالي كالي***ياكالي كاكاولي
ومباوا سالمة والليلة سالمة***ومباوا صابري والليلة صبري
وصلنا وين ماكاري وصل***وصلنا والمقصود حصل

أبيات قصيرة ومفردات مبهمة وألحان أفريقية كانت وصفة ناجحة لإحياء شوارع طرابلس وجذب الشباب الفضوليين وإطلال السكان من الشرفات لنثر قطرات الزهر على رؤوس المحتفلين، أو الانتظار أمام بيوتهم للمشاركة في الزيارة، إذ لم يكن الاحتفال حكرا على السود، فسرعان ما ينضم الأهالي للجوقة المنشدة، ولا زالت هذه الأناشيد المذكورة بحاجة للدراسة، خصوصا البيت الأخير: (وصلنا وين مكاري وصل***وصلنا والمقصود حصل) الدال على مكان قصده المكاري إما فعليا أو مجازا كرغبة أرادها ولم يحققها إلا بخروج الزيارة للمكان المنشود!

وتقام سنويا خمس زيارات تبدأ في شهر رجب وتنتهي في شعبان، تنطلق من زاوية سيدي مكاري، بعد الحشد والتجهيز في بيوتات القوديات الأربع بالظهرة وباب عكارة وسوق الجمعة وباب تاجوراء.

أربع زيارات تروح للمدينة القديمة حيث حوش القنوني وهو منتهى الزيارة ومقصد المكاري المجازي، فيسقط بعض المحتفلين مغشيا عليهم من الجذب، وبعد أن تهدأ الأجواء المشحونة، تبدأ طقوس" ترقيص النعجة" وذلك بحز رقبتها، فتنهض هائجة على أقدامها من لسعة السكين، وكأنها ترقص على إيقاع النوبة الرتيب. كان ذلك مظهرا مخيفا عندما شاهدته للمرة الأولى، لكن كبار السن لم يقتنعوا بالعرض وقالوا: كانوا ناس زمان ايخلوا فيها ترقص أحسن من هكي!

أما الدليل الأكبر للقطيعة بين زيارة المكاري والطقوس الدينية فهو حقيقة أن المكاري لم يدفن أصلا في الضريح الذي هُدم

وبعد استسلام النعجة لمصيرها. تذبح ويفرق لحمها على الحاضرين، وعلى جيران الحوش المعروف أيضا بحوش العبيد، وسمي بهذا لأنه كان مسكنا لخدم الباشا القرمانلي، ويُذكر أن أحد الأمراء القرمانليين اعتاد النزول من بيته عند مرور موكب المكاري في أزقة المدينة القديمة، ليرقص مع المحتفلين ويتبادل معهم الهدايا، إظهارا للتقدير والتسامح بين الطرفين(249/5) ، ورغم اختلاف التفاصيل بين الروايتين المكتوبة والشفهية تُظهر القصة عموما مدى التقارب بين السلطة( الدولة القرمانلية) والطبقة المطحونة التي عانت بسبب العبودية وما اتصل بها لاحقا من صور نمطية، واستمر هذا التقدير الرسمي في السنوات الأخيرة، متمثلا في رجال المرور الذين يوقفون السيارات في الطريق لمرور الموكب، وفي مساهمة رجال الشرطة في تأمين الطريق، وذلك بعد اتفاق مع الجهات الأمنية كما تقول عمتي: " كان عمي(صاليح) ياخد في إذن من الأمن بش نطلعوا في الزيارة ويوقّف معانا المرور"!.

أما الزيارة الأخيرة تسير يوم 27 من شهر شعبان إلى مقام سيدي المصري، وفيه يقام حفل كبير، يتضمن عرضا بالخيل، ويتميز مقام سيدي المصري بالنخلة العجيبة التي اشتهرت بسيل قطرات كالدموع على جذعها كلما جهرت العجائز حولها بتلاوة الابتهالات.

بداية هذا كله في زاوية المكاري، حيث تضرب النوبة بآلاتها المميزة وسط الفناء المعروف بـ( الملعب)... والملعب مجال يلهو فيه الأطفال وتوزع فيه حلوى التكرة المصنوعة من القصب، ويفرق فيه اللحم، وتجلس في إحدى جوانبه العجائز برفقة القوديا مثل منصة الحكام في مسابقة تنافسية، فتدعو القوديا الشباب الجالسين قائلة: نوض العب... بمعني انهض وشارك في النوبة أو الرقص... ولهذا سُمي بالملعب... فهو الحلبة التي تظهر فيها مهارات الشباب في ضرب النوبة أو لعب"الكسكا"!.

والكسكاKaska رقصة ليبية قديمة، وفي هذا يقول الدكتور رجب الأثرم: أن النقوش المصرية على لوحة التمحو تظهر جنودا ليبيين مرتزقة في الجيش المصري يرقصون الكسكا، بصورة تشبه إلى حد كبير الرقصة التي يؤديها الليبيون اليوم في المناسبات الاجتماعية(89/7)

يقودنا الحديث عن رقصة الكسكا وما يتبعها من طقوس للجذور المشتركة بين التراث الزنجي والأمازيغي( البربري)، إذ تشير البحوث الحديثة إلى تعايش سلمي منذ الأزمنة القديمة بين السود والبربر في واحات فزان ومنحدرات جبال الأطلس.. بل يتعدى ذلك إلى اقتران العرق الزنجي بالأمازيغي، إذ يظهر مسح آنثروبوليجي أجري في مدافن" الجرمنت" أن صفاتهم العرقية" ذات طبيعة خليطة" أي بين السود والبربر(436/8 )
إن تفاعلا غائرا في التاريخ كهذا يمكن أن ينتج لنا ظاهرة بحجم سيدي المكاري...

وعلى الرغم من توقف الزيارات الطرابلسية منذ سنة 2011 وهدم ضريح الشيخ في سنة 2013 بدعوى مخالفته للإسلام، إلا أن الاحتفال بالمكاري لم يكن دينيا، أو دعني أقول لم يعد دينيا منذ أن حضرته وأنا طفل، ولم نبالِ نحن الشباب بخلفياته الدينية وإلا كنا تعرفنا على معاني الطقوس والأهازيج التي تنشد خلال الزيارة... بل كان حدثا اجتماعيا محضا، والغريب أن لزيارة المكاري تشابها بقصة وردت في السُنّة عندما رقص الأحباش داخل المسجد النبوي في حضرة الرسول الذي لم ينكر عليهم رقصهم ولعبهم بالحراب بل منع عمر من زجرهم، والحديث مشهور(9/ 1299)

أما الدليل الأكبر للقطيعة بين زيارة المكاري والطقوس الدينية فهو حقيقة أن المكاري لم يدفن أصلا في الضريح الذي هُدم، وإنما دفن في موقع آخر... وقد فوجئت لسماع هذه المعلومة من إحدى العجائز في سهرية المكاري العام الماضي بإحدى بيوت القوديات***

لكنه أمر معروف عند كبار السن... فلم يكترثوا بالضريح الفارغ، فالأمر لا يتعلق بالمكاري بل برمزية خروج المقهورين وسط العاصمة لبلوغ" المقصود" وهو مركز السلطة الذي يمثله حوش القرمانلي!
لهذا تتعدى معاني الزيارة تقديس شخص عاش في القرن التاسع عشر لا نعرف عنه سوى القليل من الأخبار... وإنما هو احتفاء باتحاد تراث أفريقي/ أمازيغي... وأندلسي وتركي في مدينة واحدة وبلد واحد أنتج تنوعه الثقافي الكبير، ثقافة تخصنا وحدنا...
__________________________________________

(**) يشير الرقم الأول إلى رقم المرجع في قائمة المراجع ويشير الرقم الثاني إلى رقم الصفحة المأخوذ عنها.
(*) محرفة عن الكلمة التركية: (سنجاق) : راية، لواء، علم، انتشرت الكلمة في ليبيا في العهد العثماني و سنزك المكاري أخضر اللون بحواف ذهبية، كان يحمله ابن عمتي في السنوات الأخيرة حتى 2011. لتفصيل أوفى انظر: حسن الفقيه حسن.اليوميات الليبية. ج 1. تحقيق محمد الأسطى وعمار جحيدر-مركز دراسة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي 1984. ص257

(1) بلدية طرابلس في مائة عام 1870 -1970 – دار الطباعة الحديثة 1973 – طرابلس – ليبيا
(2) سالم شلابي.المختار من أسماء وأعلام طرابلس الغرب. منشورات اللجنة الشعبية العامة للثقافة والإعلام. إدارة المطبوعات والنشر- الطبعة الأولى 2006

(3) عرفت كانم برنو من امبراطوريات السودان الأوسط التي دخلها الاسلام في القرن الحادي عشر الميلادي محمد فاضل علي باري وسعيد إبراهيم كريدية.المسلمون في غرب أفريقيا تاريخ وحضارة. دار الكتب العلمية-بيروت. لبنان الطبعة الأولى. 2007

-دار الكتب الوطنية .1969-1939محمد سالم الراجحي. محلة الظهرة ملتقى الخصوصية والعمومية (4)
بنغازي- الطبعة الأولى 2004
(5) ك. مادهو بانيكار.الوثنية والإسلام تاريخ الإمبراطوريات الزنجية في غرب أفريقية. ترجمة أحمد فؤاد بلبع-المجلس الأعلى للثقافة – الطبعة الثانية
(6) الأستاذ الدكتور رجب عبد الحميد الأثرم. محاضرات في تاريخ ليبيا القديم. منشورات جامعة قاريونس. بنغازي
(7) تاريخ أفريقيا العام-المجلد الثاني: حضارات أفريقيا القديمة- المشرف على المجلد د.جمال مختار اللجنة العلمية الدولية لتحرير كتاب تاريخ أفريقيا العام (اليونسكو) 1950
(8 ( صحيح البخاري - الجزء 3 كتاب المناقب، حديث رقم 13- تحقيق الدكتور مصطفى ديب البغا –دار ابن كثير –دمشق –بيروت ، اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع-الطبعة الخامسة سنة 1993
*** تروي سيدات المكاري قصة طريفة عن موت سيدي مكاري ومكان دفنه والتي تعد أكبر كراماته. لكن منعت من ذكرها.

https://www.pinterest.com/pin/525373112759478246/

http://sibyllalibica.tumblr.com/post/96418228766/tripoli-festa-dei-neri-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AD%D8%B3%D8%A8-%D8%AA%D8%AD%D9%84%D9%8A%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%AE%D8%B5%D9%89