Atwasat

الأُخوان المستثمرون… في غزوة صبراته الأمريكية

نورالدين خليفة النمر الأحد 06 مارس 2016, 10:05 صباحا
نورالدين خليفة النمر

تواشجت التطلعات الإسلامية المحدودة معرفيا لـ(راشد الغنوشي) مع صعود ثلاثة بؤر راديكالية إسلامية زعزعت توّجهات الحداثة الناقصة في عالم مابعد الاستعمار. إذ أبى إبن الطبقة الوسطى الفلاحية شبه المفقرة، أن ينتهي مصيره معلما زيتونيا للغة العربية والدين في مدارس أرياف تونس التي همّشها المشروع البورقيبي العلماني مستثنيا بالتحديث وإلى حد ما الرفاه الاجتماعي والاقتصادي حواضر الشمال التونسي مهملا دواخله الريفية.

تلك التي ستهيمن عليها بداية ثمانينيات القرن 20 كغيرها من الدواخل والأرياف الإسلامية ما أسماه الباحث الفرنسي (برنار روجييه) رؤى (الجهادية الاجتماعية) المشرعنة للعنف ُسلّما للانتقام الاجتماعي الذي تنامت تعقيداته الطبقية التي نشهد اليوم تجلياتها الظلامية في مشروع (القاعدةـ أنصار الشريعةـ داعش) لمدة عقدين من الزمن في عالم تقاسمت هشاشة هوّياته واجتماعياته: الليبراليات الاستقلالية أحادية الحزب أو التوجّه كما في تونس البورقيبية، والشعبويات العسكرية الاشتراكيةـ القومية كما في مصر الناصرية واستلهاماتها فيما سمّي بالأنظمة الثورية، وممالك وإمارات البتروـ دولار الثرية المهيمن عليها من قبل المملكة السعودية التي تستمد طبقتها السياسية ( الأوليغارشية) شرعيتها من الأصولية المتشددة للعقيدة الوهابية.

انطلاق الملتقيات الجهوية لفعاليات المؤتمر الوطني العاشر المرتقب لحركة النهضة التونسية مناسبة انتهزها ترتيبا لسياسات وقتية متقصدة رئيسها ( راشد الغنوشي) ليعلن من مدينة ( صفاقس) ارتياحه تواطؤا مع الحكومة التونسية للضربة الجوية الأميركية التي استهدفت في19 فبراير 2016 قتل أزيد من 40 متشددا تونسيا ينتمون على الأرجح إلى تنظيم( أنصار الشريعة) الضالع الأبرز في تشابكات ما سمّي بـتنظيم الدولة الموهومة ( داعش) الذي رصدت منذ أشهر معلومات استخباراتية امتداداته في صبراتة الليبية المدينة الثقافية- الرومانية المتاخمة لحدود تونس الشرقية مع جارتها ليبيا.

لقد وصفت مصادر أمنية وعسكرية القصف الجوي الأميركي بأنه رسالة طمأنة أميركية للحكومة التونسية تبدّد من جهة قلقها من تنامي تهديدات داعش القادمة من صبراتة التي تحولت بوابة ليبية لإرهاب تونس.

ومن جهة أخرى يؤكد أن انغماس أميركا في محاربة الإرهاب في العراق وسوريا لن يضعف استراتيجيتها في شمال أفريقيا بل، على العكس، سيعزز حماية ودعم التجربة الديمقراطية التونسية الوليدة التي يقودها إئتلاف سياسي موحد تتشارك فيه حركة النهضة مع حزب ( نداء تونس) الغريم السابق ذي الامتدادات العلمانية البورقيبة.

زعيم النهضة لم يفوّت، كما لاحظ المراقبون للشأن الليبي، الفرصة في خطابه بأن يستثمر في القصف الجوي الأمريكي على صبراتة تمرير ضغوطاته على حكومة التوافق المقترحة من قبل المجتمع الدولي للاستجابة لمطالب جماعة الإخوان الليبية، المتمثلة في توليّها حقائب سيادية كالداخلية والدفاع والخارجية.

ولهذا الغرض رتّب لقاء بين رئيس حكومة التوافق المقترح ورئاسة حزب العدالة والبناء(الجناح السياسي لإخوان ليبيا)، كما رتّب أيضا مع الحكومة التركية التي يهيمن عليها حزب (العدالة والتنمية الأخواني) لتوفير حزام سياسي إقليمي ضاغط في هذا الشأن. وأخيرا تشجيعه لرئاسة حزب العدالة والبناء الليبي الالتقاء بسفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى ليبيا في جلسة التأمت بتاريخ 25/2/2016 في العاصمة تونس لتقديم رؤيتهم حول تعثر مسار التوافق الليبي- الليبي وتطورات الأزمة السياسية في ليبيا.

تحوّل حركة النهضة الإسلامية التونسية ذات الجذور الأخوانية الراديكالية المعادية لرهانات العلمنة، إلى حزب سياسي مدني!

إلا أن المراقبين السياسيين في تونس يتجاوزون الانشغال بالنسيجة ( الزربية) التي ما انفك زعيم حركة النهضة ببرغماتية الأخوان المسلمين المعهودة ينسج خيوطها تواطأ مع الأجندات الأميريكيةـ البريطانية الغامضة بدأب لصالح أنصاره الليبين في الأيديولوجية الأخوانية لتمكينهم من تصدّر المشهد السياسي الليبي الذي مازالت تعصف بتوافقيته واستقراره تداعيات الانقسام والاحتراب الليبي- الليبي المسلح والضاري منذ صيف عام 2014 وحتى اليوم، مبدين اهتمامهم بما أسموه بالتغيير البنيوي الذي ستشهده الحركة في مؤتمرها الذي ادّعى بعض قيادييها في تصريحاتهم أنه سيكون حاسما ومفصليا في تاريخها، مؤديا إلى تغييرات هامة وجوهرية داخلها، كـ" مناقشة الفصل بين ما هو دعوي وما هو سياسي" والعمل على" تعديل المرجعية الفكرية" و" إلغاء مجلس الشورى بالتخلي عنه ليصبح مجلسا وطنيا" مجمعين على أن" المؤتمر سيكون فرصة لا فقط لتقييم التجربة السياسية للحركة، منذ عودتها إلى الساحة السياسية التونسية بعد تحوّل ماسمّي مجازا بثوراث الربيع العربي، في سياق تشاركها الحكم بالائتلاف مع عدو الأمس العلماني حزب ( نداء تونس)، بل سيأخذ بعين الاعتبار كل التغييرات وتحديات الواقع وتطلعات المواطن التونسي، مما يستدعي تطور العقلية الحزبية للحركة التي تماهت بشخصنة رئيسها، والعمل بالتالي على التفتح على الشخصيات والفعاليات الوطنية، ليتسنى رسم خطط المستقبل للتحول من حركة سياسية ذات اتجاه إسلامي إلى حزب سياسي مدني.

تحوّل حركة النهضة الإسلامية التونسية ذات الجذور الأخوانية الراديكالية المعادية لرهانات العلمنة، إلى حزب سياسي مدني! فُسّر من قبل المحللين لسياسات الحركات الإسلامية المعاصرة بأنه خضوع لمسار إكراه العلمنة ذاته الذي رسم ملامحه مبكرا الباحث في الفكريات الإسلامية المعاصرة محمد أركون في كتاباته التي بدأ يصدرها تباعا مترجمة عن اللغة الفرنسية في مقتبل أعوام الثمانينيات من القرن 20 كـ"الإسلام والعلمنة" و"تاريخية الفكر العربي" و"الإسلام.. الأخلاق والسياسة" و"الفكر العربي.. قراءة علمية"، وهي الكتابات التي رصدت مسارت الطريق الذي ستنتهجه بدرجات متفاوتة أغلب الحركات الإسلامية المعاصرة، وهو القيام بدون إرادتها بأكبر عملية علمنة يشهدها التاريخ الإسلامي بتصيير الاستخدامات العنيفة والمتطرفة للمفردات والشعارات والمرجعيات الدينية (الثيولوجية) ليس فحسب وسيلة مجرّدة للصراع الإيديولوجي لمواجهة الخصوم بل أداة النزوع إلى النفوذ والسلطة الذي كانت وماتزال حصيلته ومنذ أزيد من ثلاثة عقود المآسي الصارخة، والثمن البشري الباهظ المدفوع، والذي هو في أهدافه المؤسسة له أكثر من مجرّد تمويه وتغطية عملية العلمنة والدينوة الجذرية، بل تعميّة المخاض العسير الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية، والذي هو ليس مخاض (العودة الدينية) أو( الصحوة الإسلامية) كما ادّعي دائما وعاظ وعلماء الشريعة أمثال الشيخ (يوسف القرضاوي) الذي يدين له الغنوشي بالأستاذية الفكرية، وإنما مخاض العلمنة ومواجهة مسائل التنمية والاقتصاد والتحديث ومآلاتها التي تتجرّع مراراتها المجتمعات الإسلامية في عالم اليوم الذي تعيشه تحت مظلة الرأسمالية المعولمة.

في ليبيا التي تذبح كل يوم ومنذ أربعة أعوام مرعبة بالسكاكين الكّل يأكل لحمها: أبناؤها القتلة المنضوون في ميليشيات السلاح والدمار، المفتّحون دروبها، ومدنها لكل شذّاذ الآفاق المهووسين بالقتل والدم، المبتلين بانفصامات النفس، وهشاشة الروح، وانعدام الضمير، هي أيضا براح مفتوح لكل الأيديولوجيات المصطنعة وباب مُشرع لكل أطماع هواة الفكر المغمورين، والإسلامويين الموهومين، وأشباه السياسيين المعمية بصائرهم من الليبيين، ومن بلدان الجوار ومن كل أصقاع الأرض، الذين يقامرون لمصالحهم ويستثمرون لمطامعهم في النفوذ والسلطة في بلدانهم، عبر ليبيا صندوق الرمال المباحة ذخائره الغنية أمام التجار العابثين والمستثمرين المغامرين ... و(حفظ الله ليبيا).