Atwasat

عـسـّاسو... الـذاكرة

نورالدين خليفة النمر الأحد 31 يناير 2016, 10:54 صباحا
نورالدين خليفة النمر

عسّاسو الذاكرة هم من يكتبون اليوم (كلمة الحقّ القويّة)، الكتّاب الثلاثة الأكثر حضورا، وبلاغة، في الكتابة عن الحقبة الدكتاتورية المظلمة في ليبيا المعاصرة التي كان التاريخ الليبي أبرز ضحاياها عبر امتدادها الخرافي لأربعة عقود، وهو ما تتجلّى تداعياته السّامةــ المميتة فيما تشهده ليبيا اليوم من انهيار معالم الدولة وتلاشي المقدرّات المادية، والأنكى من كل ذلك ضياع هوّية الاجتماع البشري، والتآكل المعنوي المريع في رصيده الإنساني.

وهؤلاء الكتاب- حسب الأولوية الزمنية في الكتابةـ هم عمر أبوالقاسم الككلّي، وعمر الكدّي، وسالم العوكلي. وهم من يحوزون اليوم من خلال أعمدة مقالاتهم الأسبوعية في موقع (بوّابة الوسط) ومواقع صحفية ليبية أخرى، شرف الإسم الذي أسبغه الكاتب الليبي الراحل (عبد الله القويري) عنوانا لكتابه النافذ (ذلك العسّاس)، براعة جُلّ عناوين كتبه الفكرية، و نفاذ مضامينها الرائعة كـ:(معنى الكيان، وطاحونة الشيء المعتاد، والصوت والصدى، والوقدات، وغيرها).

إقليم واحد في ليبيا معروف عموما بولائه المصالحي-المنافعي للقذافي شخصيا

من هؤلاء الثلاثة يستوقفنا الجهد الفكري الدؤوب لـ(عمر أبوالقاسم الككّلي) بإعِمال ذكاء ذاكرته بالذات في تشريح الحقبة السبعينية من تاريخنا الوطني 1970- 1980 بالتفاته النابه لاهتمام (معمر القذافي) دكتاتور ليبيا السابق بالتاريخ لا نَقول-(الوطني) لأنه ما اعترف يوما بوطن اسمه ليبيا- بل الليبي الذي أضاعه في متاهة صحراء أوهامه القاحلة طوال حقبته السياسية التنظيرية التي اشتهر مضمونها الشعبوي، الفوضوي باسم "الجماهيرية"
قبل الدخول في قلب مقالة الككلي- وقد يتفق معي الكاتب في ذلك- من أن (قذافي) بدايات انقلاب 1969لم يكن مهتما (لأهدافه السياسية الشخصية، والمتهوّرة لقيادة مشروعه الموهوم للوحدة العربية) إلا بالحراك الحديث لما سمّي بالقومية العربية، الفكرة المستعارة من أوروبا نهايات القرن 19- بدايات القرن 20 وإنباتها في بانوراما استعراض قراءاته العمومية في تاريخ صعود الشعور القومي، وتكوّن الكيانات السياسية المعبرة عنه في أوروبا، تلك التي تلقّفها، وابتسرها، أو بالأحرى ابتسرت له من طرف الدائرة الفكرية العربية المشرقية التي اصطنعها في بداية سبعينيات القرن 20 بالنفوذ والمال من الأدبيات القومجية السيّارة المختصرة عن كتابات رواد القومية العربية، وأفكارهم المبسّطة والمتداولة أمثال: ساطع الحصري، ومحمد عزة دروزة، وجورج أنطونيوس، وربما قسطنطين زريق.

سأكتفي بالتوقف عند نقطتين، مع تغيير في الترتيب أشار إليهما الكاتب في مقاله تتعلقان باهتمام القذافي بالتاريخ الليبي وهما: المؤسسية: ليس بالمعنى البنّاء والقارّ، بل بمعنى الإنشاء لأهداف مبرمجة وغرضية ومؤقتة وإن تحايلت أهداف القائمين على هذه المؤسسة وكثيرها منافعي على استمرارها ودوامها كـ: إنشاء "مركز جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي" منتصف السبعينيات، لغرض معلن وهو دراسة هذا الجهاد وتوثيقه.

ولكن الكاتب لم يُشِر ولا نَقول (يبحث) وهو مالايستوعبه مقال صحفي هدفه العموم، إلى أغراض القذافي اللئيمة ومخاطرها على التاريخ الليبي الحديث والمعاصر، والمتخفية وراء هذه المؤسسية الموهومة، وإن طفرت منها بعض الفوائد التي مُرّرت بذكاء عفوي من قبل القائمين على المؤسسة وهو ما يُحسب لهم، كالترجمات التي شملت أهم قضايا ومزايا تاريخ ليبيا الحديث المهملة من الاهتمام التاريخي العربي، كتأسس الملامح المبتدئة لدويلة ليبية مستقلة انطلاقا من (طرابلس) في (العهد القرمانللي) آواخر القرن 18 فيما أسماه ماكس فيبر Max Weber) الدويلة الباتريمونيالية أو الباتريمونيالية المحدثة (Patrimonial, neo -pateimonal state أي (الدولة الغنائمية) المحدّثة ريعيا، كذلك الدور اللافت للبحرية الليبية فيما عُرّف بنشاط القرصنة الليبي أو الصراع البحري في البحر الأبيض المتوسط، والذي ترجم إسلاميا بالجهاد البحري ضد سفن الفرنجة وهو النشاط الذي سبقت مركز الجهاد فيه منشورات دار الفرجاني الرائدة، كذلك أهمية الحواضر الصحراوية والأدّلاء والتجار الليبين في أنشطة الترحّل الأوروبي لاستكشاف أفريقيا، والعلاقات الاقتصادية والتجارية التي ربطت مدينة (طرابلس) والمدن- الدول التجارية المتوسطية والأوربية عموما كـ(البندقية) وغيرها.

إلا أن هذه الفوائد المعرفية لم تقلّل من شرّ أهداف القذافي وأغراضه التي ظهرت جلية حسب وجهة نظري في عدة مثالب مّست جوهر عمل هذه المؤسسة. (أ) التبعية الإدارية وجهة التمويل المباشرة وهي القوات المسلحة التي قادها اسميا عضو ما سمّي بمجلس قيادة الثورة وهو المعروف بـ، عدا ولاءه العميق للقذافي، بقصوره الذهني وهما خصيصتان أودتا به إلى نهايته الدرامية المحزنة صحبة القذافي إبّان الثورة الشعبية الليبية عام 2011 (ب) إدارة المؤسسة التي أوكلت منذ تأسيسها حتى انتهاء نظام القذافي لشخصين من منطقة، أو بالأحرى، إقليم واحد في ليبيا معروف عموما بولائه المصالحي-المنافعي للقذافي شخصيا، أحدهما عضو فيما سمّي من قبل القذافي(بالتنظيم المدني) لانقلاب سبتمر وأعضاء هذا التنظيم مسمون من القذافي شخصيا وتربطهم به علاقة مبكرة وخصوصية لم تنجلِ أبعاد أسرارها إلى الآن. (ج) من هم الباحثون، وإلى أية مناطق في ليبيا ينتمون، أو ينتمي غالبيتهم، وماهي التجاذبات القبائلية والجهوية التي ربما أثرت في توّجهاتهم- واستغلها القذافي- لكتابة هذا التاريخ، وماهي إمكانياتهم العلمية والمعرفية، حتى يتصدّوا لهذه المهمة التاريخية العظيمة (د) الدراسة كيف كانت والتوثيق بأي منهجية تّم، وغيرها.

ـ الاحتفالية: أي الجهد المكثف لإحياء (بدون تأريخ) لمعارك المقاومة الليبية المسلحة فقط، والاحتفال بذكرى المعارك الهامشية، واصطناع العدد الكبير منها وإهمال المعارك الفاصلة، كـ :(معركة القرضابية) بالتهوين من نتائجها(الـسـياسـية)، (أ) المتمثلة في ظهور الزعامات السياسية الوطنية، التي طرحت مشروعها السياسي الجمهوري، لتأطير الوطنية الليبية إزاء الحدث الاستعماري فيما عّرف في الغرب والجنوب الليبي بالجمهورية الطرابلسية(وهو الأمر الذي لايتقبلّه القذافي سيكولوجيا لخلفيات شخصية وعائلية- عشائرية معروفة).

(ب) تبلوّر الهوية النضالية /السياسية للحركة الإصلاحية السنوسية التي امتد تأثيرها الدعوي والنضالي فيما سمّي تاريخيا بالسودان الفرنسي من (كانو) في نيجيريا عبر واحتّي (الكفرة والجغبوب) وحتى مشارف الأسكندرية وموقف القذافي السياسي المسبق والعدواني من تأسس إمارة برقة السنوسية وبرلمانها البرقاوي المعروف الذي كان إحدى نتائج معركة القرضابية التي تلاعب القذافي للأسف عبر مؤسسة مركز الجهاد الليبي بتاريخها مبرزا فقط سلبياتها في ظهور الزعامية والقبائلية التي سينفخ في كيرها مستقبلا المزيد من المعارك القبائلية الموهومة البديلة عن (معركة القرضابية) فيما أسماه بـ :(معركة تاقرفت) وغيرها إبرازا لمشروعية نسبه المخروم قبيلة وعشيرة، وعائلة.

لكن الذي شكّل خسارة لافتة في مقال الكاتب: هو التحليل والحفر بالمعنى ( الآركيولوجي) المعرفي- وهو مايبرع فيه (الككلّي) عادة- في الدوافع الشخصية النفسية والحسابات السياسية الأنانية والانفرادية للدكتاتور القذافي وعلاقة كل ذلك بإحياء معارك الجهاد أو الكفاح الليبي ضدّ الاستعمار في عجالة يشترطها الحيّز المعطى للمقال. سأكتفي بإشارة لدافع لافت وراء اهتمام أو انشغال (القذافي) بتاريخ الكفاح الليبي ضدّ الاستعمار الأوروبي- الإيطالي لليبيا فيما سمّي في التداول الثقافي المحلّي بـ(الجهاد الليبي).)

هدف القذافي باتباعه الأسلوب (الديماغوجي) الشعبوي في نفخ الحياة في الذاكرة الليبية الموشومة بعنف الاستعمار هو أن يخلق هالة أو مجدا شخصيّا له

وهو التوظيف والاستغلال لصورة البطل الشهيد (عمر المختار) الذي أعدمته الفاشيّة الإيطالية آواخر عام 1931 منهية بشنقه آخر صفحات الكفاح الليبي ضد الاستعمار باعتباره أحد أبرز الرمزيات التي قادت معاركه (الجهادية) النضالية، باستماتة ومبدأية وثقافة سياسية وبراعة في أسلوب الحرب المعروف بحرب ( الغوار) أو العصابات وقد تجلّى هذا التوظيف القذافي منذ الأيام الأولى لانقلابه العسكري الذي تماهى فيه بإضفاء المشروعية على شخصه. فأول ظهور علني للملازم معمر القذافي، الذي رُقّي إلى رتبة عقيد منذ أيام قبيل ذلك فعرفه العالم بأنه قائد الانقلاب، كان أمام ضريح عمر المختار ببنغازي.

حيث كانت المناسبة إحياء ذكرى استشهاده في16/9/1969م حيث تعمّد القذافي كما ذكر الصحفي الفلسطيني (بكر عويضة) في شهادته "لحظة الحقيقة.. ورصاص القذافي" في (المجلّة) 18 مارس, 2013 أن يكون ظهوره مفاجئا للجميع وهو أسلوب ونهج سار عليه في إظهار غرائبيته وشذوذه في عقود حكمه الأربعة. وستظل رمزية (عمر المختار) مجالا للتوظيف المتضارب الذي يخدم أغراض القذافي وتلاعباته بتاريخ النضالات الليبية، با لتوظيف اللاحق لرمزية مكان استشهاده (سلوق) البلدة النائية التي شنق فيها، والتي أرجع إليها جثمانه من ضريحه في بنغازي بسبب التفاف الطلاب في أحداث يناير الجامعية عام 1976 حول رمزيته للتنديد بقمع النظام العسكري الدكتاتوري لإرادتهم في نيل حقوقهم النقابية، ثم استغلال (سلوق) ذاتها التي اصطنعت فيها معركة تُحيا ذكراها يوم 06.أبريل.1976، بغرض انطلاق عمليات القمع والتنكيل بطلاب الجامعات الليبية فيما عرف بيوم (السابع من أبريل) المشؤوم، الذي صار مع السنوات مسلسلا دمويا لبثّ الرعب بالشنق والسجن والعسف بكل من يفوه بكلمة تذمر أو معارضة لنظامه السياسي.

نأتي أخيرا إلى فيلم "أسد الصحراء" عن بطل المقاومة الليبيّة عمر المختار، الذي موّل القذّافي إنتاجه الضخم، راميا من ورائه ليس إلى "تحقيق أماني الوحدة والكرامة وصنع الهويّة الوطنيّة لليبيين" كما انساق إلى ذلك كثير من المعلّقين الصحفيين الأجانب وبعض الباحثين الأوروبيين وآخرهم الباحثة الواعدة في حقل الدراسات"مابعد- كولونيالية الإيطالية-الليبية" ستيفانيا ديل مونتي- Stefania Del Monte في كتابها باللغة الإنجليزية Staging Memory: Myth, Symbolism and Identity in Postcolonial Italy and Libya.

لقد كان هدف القذافي باتباعه الأسلوب (الديماغوجي) الشعبوي في نفخ الحياة في الذاكرة الليبية الموشومة بعنف الاستعمار هو أن يخلق هالة أو مجدا شخصيّا له بتصوير نفسه للعرب والمسلمين والآفارقة بمضادته للإمبريالية والاستعمار، وأن يستغلّ إرادة عدم النسيان المتحكّمة في كثير من الليبيين بالضغط على نقطة ضعف الدولة الإيطالية تجاه ماضيها الاستعماري في ليبيا، واستثمار هذا الضعف من قبل الدولة الإيطالية، لخدمة، وهو مانجح فيه مؤقّتا، عدا إعادة إنتاج بنية فساده الزبائنية العائلية، خدمة مصالحه السياسية بإعادة تجيير شخصه ونظامه الذي أبانت الثورة الشعبية عام 2011 عفنه وتداعيه بل تهالكه وانهياره.