Atwasat

رسالة إلى والدي (2)

عزة كامل المقهور الخميس 31 ديسمبر 2015, 02:41 مساء
عزة كامل المقهور

والدي الحبيب، هذه رسالتي الثانية على رأس العام الجديد الذي يوافق عيد ميلادك.. كم بلغت هذا العام؟، أوّاه.. الثمانين بالكمال.. .قضيت منها أربعة عشر عامًا في العالم السرمدي.

حدث كثير منذ أن كتبت لك رسالتي الأولى.. لكن الحدث الأبرز لقاء السيدين عقيلة صالح رئيس مجلس النواب، ونوري أبو سهمين رئيس المؤتمر الوطني العام بعد نحو العام من الشقاق والحرب التي أكلت أبناءنا، والتهمت أطرافنا، وهجَّرت ما يقارب المليون، وداست على كرامة الليبيين وقهرتهم.. لا تبتسم يا والدي، فاللقاء جلب الاستغراب والدهشة ولم يجلب الفرح.

أعلم أنك لم تسمع بـ«داعش» وإن كنت قد علمت بـ«القاعدة»

كما أن الأمم المتحدة التي تعرفها جيدًا، وكنت ممثلاً لليبيا فيها في السبعينات، وسعيت آنذاك ونجحت في إدخال اللغة العربية لغة رسمية، وفي الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية عضوًا مراقبًا فيها.. أتذكر ذلك جيدًا؟.. الأمم المتحدة تدخلت مجددًا، وعينت مبعوثًا جديدًا لها يدعى برناردينو ليون، إسباني الجنسية، قام بلم شمل بعض الليبيين على طاولة واحدة للتحاور بعد أن فشل الليبيون في أن يتحاوروا.. وبعد قرابة السنة، وبعد أن اقترب ميقات سعيه وتكلل بالتوقيع؛ ارتكب حماقات عديدة أدت إلى عدم التوقيع.. فاستُبدل به ألماني، ووقَّع الليبيون على هذه الوثيقة.

وأصبح لنا حكومة جديدة تحت مسمى «حكومة الوفاق الوطني» يرأسها ابن صديقك الأستاذ مصطفى السراج رحمه الله.. وله خمسة نواب، منهم أخ زميلة دراسة لي.. أرى في عينيك بريق الاستغراب.. ومن حقك، فلا أحد من الليبيين يعرف كيف ستسير دفة الحكم بكل هؤلاء.. لكننا في الوقت ذاته لا نرى حلاً آخر.

بابا الغالي.. أعلم أنك لم تسمع بـ«داعش»، وإن كنت قد علمت بـ«القاعدة»، وأتذكر جيدًا وأنت في غرفة الجلوس ببيتنا المطل على «المتوسط»، تجلس على كرسيك الأحمر تتابع الحرب على أفغانستان، ثم العراق.

«داعش» مجموعة تفوقت على «القاعدة» من ناحية التكتيك والأسلوب، أهدافها ليس القيام بأعمال إرهابية فحسب، بل كسب الأراضي والمغانم، ومن بينها النساء.. نعم النساء يبيعونهن، ويتبادلون عليهن بأثمان بخسة.. لا تشمئز ولا تنفر.. فقد تفننوا في القتل والذبح والتعذيب، وإخراج كل هذه الأفعال المشينة في أشرطة متلفزة عالية الجودة، كما أن «داعش» ضم بين صفوفه بشرًا من كل صنف ونوع، وتهافت عليه الأوروبيون والأميركان والهنود والأفارقة.. كلهم يحلمون بـ«الدولة الإسلامية» والخليفة البغدادي.. ليس من عائلة البغدادي الظهراوية بل من بغداديّ العراق.

أما بنغازي لاقت من العناء والهدم والتنكيل ما لم تنله مدينة أخرى أهلها تحت القصف العشوائي نزحوا من بعض الأحياء بالكامل

هؤلاء يا أبي وصلوا إلى ليبيا، وتمركزوا في درنة، ثم في سرت.. أجل لا تفتح عينيك العسليتين استغرابًا.. فقد وصلوا سرت، وتمركزوا فيها، وأعلنوها عاصمتهم، وقطعوا عن أهلها الاتصال.. وقتلوا وصلبوا من أبنائها مَن قاومهم.. وصرخ أهل سرت عبر الإذاعات، ولم يساندهم أحد. نزح كثيرون من أهلها، واعتنق بعض شبابها مذهبهم؛ خشية أو انتقامًا ممن نكِّل بهم.. لـ«داعش» خلايا أخرى في أجدابيا وصبراتة، وهناك مَن يقول في طرابلس أيضًا.

أما بنغازي، مدينة أصحابك، تلك المدينة التي مررت بها في طريقك إلى قاهرة المعز مع عمي محمود؛ لاستكمال دراستيكما الابتدائية، ومكثتما بها حتى نلت إجازة الحقوق، ونال عمي محمود إجازة الطب، بنغازي التي أخذتني إليها من يدي ولم أبلغ السابعة عشرة من العمر، وأودعتنيها؛ لاستكمال دراستي الجامعية في الحقوق، وأهديت الكلية نسخة من حكم محكمة العدل الدولية في قضية الجرف القاريّ ما بين ليبيا وتونس التي توليت فريقها القانوني بنجاح، هذه المدينة لاقت من العناء والهدم والتنكيل ما لم تنله مدينة أخرى.. أهلها تحت القصف العشوائي، نزحوا من بعض الأحياء بالكامل، وتوقفت فيها الدراسة، وأصبحت مدينة منكوبة دون أية مساعدات سوى صبر سكانها، وحبهم الجارف للحياة.

تعافت بعض أحيائها، وبدأت فيها الدراسة جزئيًّا هذا العام.. وبلغ فيها حد المقاومة درجة تستحق الدراسة والبحث.. لا تزال بنغازي في حاجة إلى كثير، لكن ما يؤلم يا والدي أن «رباية الذايح».. انقسم فيها أهلها، بين هذا وذاك.. بين «حضور وبوادي».. بين برقة الحمراء والبيضاء.. لا تستفسر مني، فلا إجابة لدي.. مصطلحات جديدة فاجأتنا، وفي قلوبنا أمل أن تنزاح، وتعود لجرابها، وتختنق فيه، ويعود كل «الذوايح» وكلنا إليها.

مدينتك طرابلس.. غادرتها منذ نحو السنة.. تختنق، لا كلمات فيها، سوى ابتسامات باهته كطلاء جدران المدارس الرمادي، تعيش أحلك أيامها رغم زينتها ومآذنها ومقاهيها.. يقف على صدرها كثير من الأدعياء، يعتلي منصتها تحت سور السرايا وجوه لم نعرفها، وأسماء لم نسمع بها.. لا تبتئس يا أبي، فالحمام لم يغادر ميدان الشهداء إلا عند اقتحامهم خلوته، وعند سماعه أصواتهم.. وما يثلج الصدر يا والدي تلك المقاومة المدنية المتحضرة لهذا البلد.. احتفلوا بالمولد الشريف لرسولنا الكريم صلاة الله عليه وسلامه، واجتمعوا في جامع «الناقة» احتفاءً بمولد سيد المرسلين، وقرأوا المدائح من كتاب الشيخ علي سيالة رحمه الله «ريحانة الأرواح في مولد خير الملاح» رغم التهديد والوعيد.

كما أبشرك بأنه ورغم كل الفوضى الإدارية والانقسام، لا يزال موظفو الإدارة الوسطى يعملون بمهنية ويتجنبون الاستقطاب الحاد.

لكن المخيف - يا أبي - انتشار ظواهر لم نعرفها قط.. الخطف على الهوية.. تستفسر ما أقصده؟، للأسف أن تكون من ورشفانة، أو الزاوية، أو الزنتان، أو سوق الجمعة، أو تاجوراء، أو مصراتي، أو تاورغي في الوقت والمكان الخطأ يعني الخطف والتعذيب والتنكيل.. .نعم هكذا أصبحنا.. أسمعك تقول بصوت خافت: ما هذه الشراسة؟.. نعم، إنها شراسة الحرب يا أبي.. مازال مازال.. صبرك يا أبي.. أصبح الخطف اليوم مقابل فدية.. نعم، صدقني.. مثل عصابات المافيا.. أتذكر فيلم «العرّاب» الذي شاهدناه صحبتك في أجزائه الثلاثة؟، وكنت تدوس على زر التقديم كلما قررت ذلك.. نعم لكن «العرّاب» في فيلمه كانت لديه قواعد للعبة.. أما نحن فلا قواعد، وآخرها خطف أطفال ثلاثة من أبناء الشرشاري في صرمان، مسقط رأسك مقابل طلب فدية بالملايين.

ننتظر حكومة جديدة مازالت غير قادرة على أن تحط الرحال في طرابلس ننتظر أن يبتعد الغرباء عن التدخل في شؤوننا

أرى دمعتك تنحدر.. لا لا لا تبتأس.. فأنت الذي علمتنا أن للحياة انعطافاتها وتقلباتها.. أتذكر تأميم أملاكك بما فيها حديقة بيتنا في قرقارش، واستقالتك من الحكومة، ورفضك تقاضي معاش التقاعد؛ لأنك عددت نفسك مستقيلاً؟. لعلك الوزير الوحيد الذي لا تتقاضى أسرته راتبًا تقاعديًّا.. لكنك بدأت من جديد في ذلك المكتب الصغير في ميدان الجزائر، ثم انتقلت إلى الظهرة.

أحب ابتسامتك هذه يا والدي.. أختم قولي لك، بأنني أغبطك على مغادرتك هذه الحياة قبل أن يجري لنا ما جرى.. هل تصدق - آسفة على هذا القول، فعلى قدر لوعتي على رحيلك تأتي سعادتي لها - أن تعيش حربًا أهلية بين المدن والأحياء والخلق الذين كانوا أصحابًا أو جيرانًا أو أقارب هو الجحيم بعينه؟.. لم تشفع المصاهرة، ولا المجاورة، ولا الصداقة.. يا أبي هم الليبيون يتقاتلون.. لن أذكر أسماءً ولا ألقابًا.. لن أحكي لك عن مزيد من التفاصيل.. لن أقول إلا «الفجي في الليبيين».. تشيعوا، وتفرقوا إلى جماعات يا أبي.. منها مَن تتحكم في قوت الليبيين، وتنسّبها إلى مناطقها، وتقفل آبار النفط، وتوقف التصدير، وأخرى تتحكم في صنابير المياه، وتجفف حلوق أهلنا، وأخرى تتحكم في التيار الكهربائي، وتقطع النور بالساعات، بل بالأيام أحيانًا.. وجماعات تعلن الحرب والقتل والدمار، وتدمر المطارات، وتحرق خزانات النفط، وجامعة قاريونس، ومكتبتها المركزية التي كنت أجلس على درجاتها، وأتزود بعلمها في الثمانينات.. وحيث سجلت كتبك وقصصك وكتب المؤلفين والمبدعين الليبيين.. إنها ذاكرة الوطن يا أبتي..

ننتظر حكومة جديدة.. مازالت غير قادرة على أن تحط الرحال في طرابلس.. ننتظر أن يبتعد الغرباء عن التدخل في شؤوننا، وصب الزيت على النار.. ضعاف النفوس - يا أبي - حجّوا إلى بلدان عديدة، وتمسحوا بحكامها مقابل الفتات.. ليعودوا بصناديق الأسلحة والذخائر، ويفرغونها في صدور إخوانهم.. لم أكن أعرف أن لدينا هذا الصنف من الرجال.
ننتظر.. وفي رسالة قادمة.. سأعلمك عما جرى، وأرجو أن تكون أخبارًا جيدة..

المطيعة
عزة
31-12-2015