Atwasat

استاتيكي..!؟

صالح الحاراتي الأحد 24 مايو 2015, 10:49 صباحا
صالح الحاراتي

اﻻستاتيكية، بالمختصر، تعنى(علم السكون) وعكس الديناميكية، وهى معنية بدراسة الأجسام عند السرعة صفر... هذا ما يقوله أهل العلم التجرببى، ولكنى أخذت اللفظ كقرض حسن لاستخدامه لمعنى اصطلاحى إشارة إلى(السكون والجمود العقلى) لنرى كيف تتأتى تلك الحالة؛

يقولون سُمِّيَ العقل.. عقلاً لأنه يعقل صاحبه ويقيه من التورط في المهالك.. والعقل هو الذي يميز الإنسان عن سائر الحيوانات..

فى واقعنا اليوم، وبرغم تسارع التطور واﻻكتشاف والتغير فى العالم، مازال هناك الكثير بيننا ممن يمكن أن نسميهم أصحاب العقولِ الاستاتيكية الساكنة المعطلة؛ وأول العلامات الدالة عليها هى انشغالها بالماضى واﻻنفصال عن الحاضر.. فنراها متشبتة بشعاراتٍ فضفاضة هلامية في غفلة تامة عن حقائقِ العصر وآلياتِ الواقع المُعاش.

فأصحاب العقل اﻻستاتيكى لا يقبلون تجاوز الماضي ومناهجه وطرق تفكيره ولا زحزحةً له، بل يحملونه كما هو من القرون السالفة والعيش في عباءته واستنساخ منتجاته، بل ومفرداته، وتسفيه كل خروج عنه وعدم إعمال العقل في تحليل أحداثه للاستفادة من تجربة مَن سبق، بل ويغلقون الأبواب أمام حرية البحث لاختيار الموقف المناسب نظرا لتغير معطيات المكان والزمان؛ إنها عقول فى حقيقتها متوقفة عمليا عن التفكير وﻻ تشغلها إﻻ الغرائز ونمطية اﻻتباع!! الأدهى وما يلفت اﻻنتباه، أن أصحابها ﻻ يشعرون بذلك، بل هم مستمتعون بسكونهم ويظنون أنهم على صواب دائم مطلق، فهل مرد ذلك إلى قدرتهم الذهنية العاجزة عن نقد الذات والانكشاف على الواقع والوعي بما يجري فعلا؟ أو بسبب عوامل أخرى ساهمت في إنتاج تلك العقول اﻻستاتيكية المعطلة.

فى ظنى هناك عوامل وركائز أخرى عديدة منها(اليقين بامتلاك الحقيقة، وعدم الانفتاح على تجارب الآخرين-وعدم الاستقلال فى التفكير بعيدا عن تأثير رموز السلطة الدينية- وعدم الابتعاد عن أسر الهويات والتفاخر العرقي العنصري- وعدم الثقة بقدرة الذات- وعدم الإيمان بأهمية العلم وانتشار ذهنية الخرافة والأسطورة).. كل ذلك وغيره يؤسس حتما للعقل اﻻستاتيكى السائد ويحرمنا من الأخذ بالأسباب الدنيوية ويجنبنا خسائر وكوارث ﻻ زلنا نتجرع مرارتها في كل حين، إن استمرار حالة الاستنساخ لنماذج يحيطها الوهم من كل جانب، جعلت مجتمعنا يعيش فى حالة من السكون العقلى الاستاتيكى، حيث ﻻ زال كثيرون في غيبوبتهم يلوكون بأفواههم وببلاهة عبارات فضفاضة مثل(الثوابت)و(الخصوصية) و(الهوية)؛ دونما تشريح دقيق وتفسير وتحديد لتلك المصطلحات والشعارات البراقة. إنهم يتجاهلون أن الخصوصية والهوية الثقافية بها الإيجابى وبها الكثير من السلبيات وهي متغيرة ونسبية وﻻ ثوابت فيها إﻻ ما يتفق عليه الناس في كل عصر. لكن أصحاب النموذج الأبرز للعقل اﻻستاتيكي، وهم أصحاب الفكر الشمولي الفاشي الدينى(بداية من الأخوان ومن على شاكلتهم ومواليهم إلى المتسلفنين وصوﻻ إلى القاعدة والدواعش) لم يتوقفوا يوما عن محاولاتهم المستميتة المخادعة فى رفع شعارات فضفاضة تدغدغ مشاعر الناس من خلال ربط ما يقولونه بالمقدس حتى يخدعوا الناس الذين يستجيبون لهم بما هو متيقن في القلوب بوجوب الطاعة والقبول لكل ما يتصل بالدين... فتنصاع لهم عقول البسطاء وتعم اﻻستاتيكية الفكرية على نطاق كبير فى المجتمع ويتم تغييب حقيقة أن التغير والتجديد والديناميكية سمة الحياة ويغيب عنهم أن الله وجه توبيخا ﻷهل الجمود أولئك الذين قالوا"إنا وجدنا أباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون".. وفي موضع آخر:"أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُون).

أصحاب العقل اﻻستاتيكى لا يقبلون تجاوز الماضي ومناهجه وطرق تفكيره ولا زحزحةً له، بل يحملونه كما هو من القرون السالفة

وأتذكر في هذا السياق مسألة أخرى تفعل فعلها:
إنهم يدينون بأهم الإشارات التي تدل على هذا الإنسان اﻻستاتيكي وهي الإيمان الكامل بالفهم الخاطيء لمعتقد التوكل حتى صار إلى(التواكل) والقدرية الذي أعاق رحلة البحث عن التجديد وذلك بسبب مفاهيم خاطئة ترسخت وتراكمت عبر قرون من خلال نظرة جمودية تهمل الجانب الفكري والتأملي والبحثي في الحياة..
يقول طارق حجي"اعلم أن شيوع الإيمان بالقدر متوفر في كل الثقافات بنسبةٍ أو بأخرى– وليست هذه هي القضية ولكن القضية المحورية هي موقف أغلبية العقول من فكرة القدر: فالبعض من الذين يؤمنون بقدرية الأمور يجلسون في انتظار القدر لأنه آتٍ لا محالة ووفق معطياتٍ لا سلطان لهم عليها.. وفي مجتمعاتٍ أخرى توجد فكرة القدرية ولكن تتعامل العقول معها وفق منطقٍ كأنه يقول: نظراً لأني لا أعرفُ ما هو القدر فإنني سأتصرف وكأنه غير موجود ونحن هنا بصدد موقفين أحدهما منتج للعطالة والثاني منتج للإيجابية."

المفارقة أنه عند استهجان ما تذهب إليه حركات الإسلام السياسي من إلباس ثوب القداسة على ما يطرحونه من مخرجات، ويقال لهم أنتم تدلسون على الناس وتساهمون فى الجمود والسكون والتخلف، وﻻ تقدمون برامج للتنمية وﻻ تتعاملون مع الواقع وأنتم تؤدلجون الإسلام وتكذبون على الله والناس، وما تقولونه ليس إﻻ"شعارات" وهي ليست النص المقدس قطعا، وإنما هي(نتاج فهمكم البشري للنص)، وأنه لا توجد شعارات وفهوم بشرية مقدسة- وإن التحفت برداء الدين- ولنا أن ننتقدها بدون حرج وﻻ التباس مع المقدس.. انطلقوا، كعادتهم ، لتخرج لنا من أفواههم مقوﻻت التبديع والتكفير والتخوين.

وبدون أي حرج يمكننى القول، أخيرا، أنه ليس أمامنا، إذا أردنا تنمية وبناء دولة، إﻻ أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون فى التجربة الإنسانية.. فالإنسان هو الإنسان ومواصفات الجودة والحكم الرشيد ماثلة أمام أعيننا وهذا ما علينا فعله الآن الخروج من دائرة الاستاتيكا المجتمعية والشخصية وتأثيرها السلبي من خلال قصرالرؤية الناتج عن ثبوت الإنسان فى مكان بدون حركة مع انعدام فى الرؤية وانعدام في الإحساس، بالإضافة لرفض التغيير، بينما الحل يكمن في الإيمان بالإنسان الديناميكي الذي يؤمن بالتغيير والمبادرة وتقديم الأفكار وطرح الحلول. التغيير الذي ينقلنا من وضع إلى وضع أفضل، الذي ينتشلنا من الوهم إلى الفهم، من التقليد الأعمى إلى التقليد الواعي المؤدي إلى الابتكار وتحسين أوضاعنا ومعيشتنا.. وحتى ﻻ تبقى العقول اﻻستاتيكية مستغرقة فى حلقتها المفرغة فلا مناص أمامها إﻻ إيجاد فهم جديد ورؤية جديدة تجيب على أسئلة الواقع وتقدم الحلول العملية لمشاكلنا وذلك الأمر يتطلب- عقلا حرا يطلع على كل الثقافات والأفكار بهدف الاستفادة منها وأخذ أفضل ما فيها.. فواقعنا يؤكد- وبفضل ما وصلنا من عصور التخلف باعتباره دينا – أنه أصبح لدينا ما يكفي منه لكي نمضي في طريق الدماء والدمار للحد الكارثي المفزع الذي نعيشه الآن..

ليس أمامك، أيها اﻻستاتيكي، إﻻ أن تتأكد أن المستقبل هو ما تصنعه اليوم وأن اﻻستاتيكية لن تؤتيك نفعا وﻻ لمجتمعك.