Atwasat

حول مفهوم الإيمان في الثقافة الإسلامية

عبد الوهاب العالم الأحد 24 مايو 2015, 10:46 صباحا
عبد الوهاب العالم

قالت المعلمة في حصة التربية الإسلامية أن: الإيمان هو التصديق بوجود الله والملائكة والرسل والكتب واليوم الآخر... كان ذلك في المرحلة الابتدائية، فصدّقنا المعلمة واعتبرنا قولها إحدى المسلَّمات الكثيرة التي تملأ حياتنا... حتى هذه الأيام، حيث فوجئنا بظهور فيديوهات تُصور قتل غير المسلمين بل تمادت هذه الحوادث لتطال المسلمين أنفسهم، وعلى إثر ذلك، انزلق العالم الإسلامي إلى حالة من الضياع والتشكيك عزّزها نشاط جماعات اتخذت شكولا عديدة: فمرة هي"قاعدة" ينطلق منها جنود الإسلام.. ومرة هي"تنظيم دولة".. وقد تكون"جبهة" تنصر الرسول!! وأيا كان الشكل فجميع هذه الجماعات تدّعي أنها وحدها تمتلك(الإيمان القويم)... وهنا نقف عند سبب الضياع: فالإيمان هو النقطة الحساسة في منظومتنا الدينية، ولذلك هو الأمر الذي يُتهم فيه المسلم على الدوام، فإذا نزعوا عنك صفة الإيمان صار من السهل نبذك أو قتلك ببساطة، كما نرى هذه الأيام.. ولن يكترث المجتمع لأمرك! ذلك لأن عقل مجتمعنا انطمس على يد"أبلة الدين" بالمسلمات الكثيرة..فاختلط علينا الأمر.. وصار السياسي الذي يستحق الثقة في نظرنا هو الذي يوحي مظهره بالإيمان والتقوى!!..دون أن نتساءل ماذا لو كان منافقا وخدّاعا؟.. وما إذا كان الحكم على الإيمانبهذه السهولة فعلا..كما اعتدنا اتهامات الضلال والكفر.. دون أن نتساءل: كيف يعلم من يُقسّم الناس لمؤمن وغير مؤمن بما في نفوسهم؟!
لهذا نعيش اليوم في فوضى الإيمان والرعب، التي لن تتوقف إلا بتفكيك مفهوم الإيمان نفسه.. وهو ما سأقوم به في هذه المقالة عبرمحطات متتالية يتضح من خلالها زيف ما صدّقناه في السابق.

بداية، ليس معنى الإيمان هو التصديق، فقد يصح هذا التعريف من الناحية اللغوية لكنه ليس تعريفا دقيقا، إذ تحمل هذه الكلمة معاني عديدة، بعضها قريب كالتصديق وبعضها الآخر بعيد كالبركة!(682/1)*.. ولكن غلَب معنى التصديق ليصيرالوحيد في أذهان الناس، وهذا ما جعل تكذيب المسلمين في إيمانهم أمرا سهلا!.. وقد ساهم أهل اللغة في هذا اللبس حيث"اشتهر عند أهل اللغة تعريف الإيمان بالتصديق، حتى ادعى بعضهم الإجماع على ذلك"2)/35). والأقرب للمعنى الصحيح هو: الإقرار.. وهذا ما ذهب عليه فقهاء أهل السنة في شرحهم لمعنى الإيمان وصولا لمتأخريهم، فقالوا:"الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو الإقرار بالقلب والنطق باللسان والعمل بالجوارح" (94/3) وهذا تحول جذري في مفهومنا عن الإيمان! فهو ليس مجرد التصديق كما سلمنا به في الصغر"فاللفظ متضمن معنى التصديق ومعنى الائتمان والأمانة"(292/4)

بيد أن الإقرار كما جاء في التعريف: أمر قلبي، وهذا ما أطلق جدلا واسعا في تاريخ الإسلام بين جمهور الفقهاء والمتكلمين، ما أدىللتوسع في مفهوم الإيمان نفسه، فكان ليس من السهل- كما هو الحال اليوم- سلب المرء إيمانه.. ولنعرف سبب التوسع في مسائل الإيمان علينا الرجوع للجدل العنيف، والمتواصل مع(المرجئة)** حول تعريف الإيمان وشُعبه(957/5)، حيث نلتمس من أقوال السلف تأثير الجدل مع المرجئة الذي ساهم في نهاية المطاف في توسعة، بل وعمومية، المفهوم الحساس.. فها هو الشافعي يحدثنا عن تعريف(السلف) للإيمان فيقول: وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم: أن الإيمان: قول وعمل ونية ولا يجزي واحد من الثلاثة إلا بالآخر(957/6)
ونقل إلينا البخاري أقوال العلماء في الأمر إذ قال: كتبت عن ألف نفر من العلماء وزيادة ولم أكتب إلا عن من قال: الإيمان قول وعمل ولم أكتب عن من قال الإيمان قول (959/6)

وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك: أنها معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل

ونجد أن ثمة اختلافا بين التعريفين السابقين، فالإيمان عند العلماء الذين كتب عنهم البخاري هو: قول وعمل، أما الشافعي- وآخرون- فيضيفون(النية).. والنية هي أيضا أمر قلبي كالإقرار والتصديق، وهذا يوقفنا عند أولى محطات مقالتنا: وهو استحالة الحكم على الإيمان بناء على النوايا وذلك لتفرد الله بعلمها. وقد انتبه فقهاء الجماعة لغموض هذه الأقوال فقام أئمة من مثل الأوزاعي بربط التعريفات المختلفة واستنتج بأنه: لا يستقيم الإيمان إلا بالقول ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة" (956/6) بيد أن الصراع لم يتم عند هذا الحد.. وكان التصديق القلبي محور أكثر هذا الصراع.. فالمرجئة يكتفون بـ"تصديق القلب" ((271/2. بينما يصرُّ أهل الجماعة على ترجمة الإيمان القلبي للأفعال، فيما سمّوه بـ"التلازم" (187/7). بمعنى أن الإيمان الحقيقي يشمل الالتزام بالطاعات والابتعاد عن المحرمات. وقد دارهذا الجدل طويلا، رغم أن الأمر كله يتعلق بالنية وإخلاص الفرد لربه..!! وهنا تجب الإشارة إلى أن: إسهاب الفقهاء في الكتابة عن الإيمان وتفاصيله لم يأتِ للحكم على إيمان الناس والدخول في نواياهم، وإنما جاء كشروح لماهية الإيمان وفتاوى خاصة لحالات منفصلة، وقد بذلوا هذه الجهود ليعرف الفرد مدى صحة إيمانه ومراقبة نفسه، لا لمراقبة الناس.

يقودنا هذا إلى ثاني المحطات في مقالتنا وهي: أن المسلم حسيبٌ على نفسه وليس له أن يُنيب عن الله في هذا الشأن بالذات. والدليل على ذلك: قولهم أن الإيمان يزيد وينقص "فقد أجمع أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص ويزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.." (78/2) وبما أن الفرد المسلم يحسِب نقص إيمانه وزيادته، نجده يتحرى أفضل الطاعات ليتقبل الله منه، ورغم هذا يتخوف من عدم القبول والاستجابة وهذا ما سُمي"بالاستثناء" وهو "النظر في قبول الأعمال، فإن الإنسان يعمل ولا يدري، أيتقبل منه أم لا لخوفه ألا يكون أتى بالعمل على الوجه المأمور".(93/2)

وهذا الخوف والاجتهاد الذاتيان يعفيان المجتمع من المتكلمين باسم الله..وقد ذكر الآجرى في كتابه الشريعة أن العلماء أنفسهم كرهوا سؤال: أمؤمن أنت؟ لما في هذا السؤال من حكم على النوايا وبالتالي إلهاء المجتمع بأكمله في تفاصيل تافهة لا نعلم حقيقة أمرها.. 96-95:2) )
يقودنا هذا إلى المحطة الثالثة وهي: نسبة العلم الضئيلة في الإيمان وارتفاع نسبة(الغيب) فيه.. وذلك لثلاثة أسباب، أولها: يُعدّ الإيمان والعمل ونقصانه وزيادته أموراً غيبية ؛ والثاني: قد يؤمن الفرد دون أدنى علم بما يؤمن به تحديدا فهو في نهاية الأمر يصلي ويزكي ويعمل الصالحات لله الذي لا تدركه الأبصار.. كما جاء في الآية 3 من سورة البقرة:(الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)؛ أما الثلاث: لا يمكننا العلم بالشخص الذي يكتم إيمانه إلا لو قرر إظهاره كما ورد في الآية 28في سورة غافر:(وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتُمُ إيمانه..).

فهذا رجل مؤمن في الباطن أفصح عن اعتقاده الداخلي بعد كتمان وما كنا سنعلم بأمره لولا قوله.. وقد توجد هذه الحالة بالعكس، وأقصد هنا المنافق "والمنافقون هم في الظاهر مسلمون، وقد كان المنافقون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: يلتزمون أحكام الإسلام الظاهرة" ((469/8
فكيف يمكن تشخيص هذا النموذج، ناهيك عن الحكم عليه؟

إذ اختلف الفقهاء أنفسهم في حكم الزنديق(المنافق)"لهذا تنازع الفقهاء في استتابة الزنديق. فقيل: يستتاب. واستدل من قال ذلك بالمنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل أمرهم إلى الله؛ فيقال له، هذا في أول الأمر، وبعد هذا أنزل الله(ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا) فعلموا أنهم إن أظهروه كما كانوا يظهرونه قُتِلوا، فكتموه". (215/7)

وقد أنهى القرآن الأمر برمته بأن جعل الحسم بيد الله وحده في سورة النساء الآية 142 بتصريح مباشر:"إن المنافقين يُخادعون الله وهو خادعهم" كما اختص بفضح علاماتهم بقوله "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ 8يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ9 " من سورة التوبة، فكيف سيعلم الرسول والمسلمون أمرهم إن لم يكن الله قد فضحهم لهم؟

لكن مع ابتعادنا عن هذه الآيات التي يتصدى فيها الله للمنافقين، وقعنا في صخب المتهمين والمزايدين، فصرنا نلتجيء إليهم كلما واجهتنا صعوبة في تحديد صحة إيماننا الشخصي!

وهذه الصعوبة تكمن في طبيعة المفهوم نفسه.. ولهذا تحدث الفقهاء عن(التفاضل) فقالوا"أن نفس العلم والتصديق يتفاضل ويتفاوت" حسبما ذكر ابن تيمية(85/2)
هذا"التفاضل في العلم" هو محطتنا التالية: فالعلم يزيد من إيمان المؤمن"ومن هنا كان الأكثر علما هم الأكثر خوفا من الله: إنما يخشى اللهَ من عبادة العلماءُ".فاطر الآية 28 .

ولم ينتبه الكثيرون لمسألة العلم ودرجاته من المتأخرين.. لانشغال العالم الإسلامي باتهام الناس بضعف الإيمان وتبديع اعتقاداتهم..عوضا عن إعلامهم بأمور دينهم التي قيل لهم مرارا بأنها مسلمات يمنحها ويمنعها من يريد من التشكيلات الإجرامية التي تدعي نجاتها.. وحيازتها للإيمان القويم.

وهذا مدخلنا للمحطة الأهم في مقالتنا: فبما أن الإيمان هو أدنى درجات العلم بالأمور لأننا نقر ونعمل ونُطيع معتقدين بما هو في الغيب كما جاء في حديث جبريل(25/9). كانت(الحكمة) إحدى أعلى درجاته.. فهي أفضل من الإيمان من الناحية المعرفية وهي الأيسر في الملاحظة.. ولهذا كانت مكسبا عظيما للمؤمن(الذي يعلم أكثر) كما تقول الآية 269 من سورة البقرة(ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) ، ويدعم رأينا هذا تعليق ابن تيمية على الآية 11في سورة المجادلة:(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)، إذ قال: وحيث ذكر الذين آمنوا فقد دخل فيهم الذين أوتوا العلم؛ فإنهم خيارهم، (13/8) .
فكما نظرنا فإن الإيمان- بما يتضمنه من تصديق قلبي وعمل-إذا زاد فإنه لن يكون زيادة في العلم وإنما زيادة في الإيمان والطاعة! والآيات الدالة على ذلك عديدة مثل الآية 4 من سورة الفتح:(هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم).

وفي سورة المدثر آية 31(ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا) وغيرها كثير... إذن، زيادة الإيمان تفضي لمزيد من التقرب والتقوى والعبادة والطاعة ويبقى أمرا ذاتيا وجدليا كما أسلفنا.. أما الحكمة.. فالزيادة فيها زيادة في العلم، والتدقيق والتقدم إذ يسهل تمييز الحكيم بوصفه- الأكثر علما- بين الناس.. ويبرز لتصرفاته وأسلوبه ونشاطه في محيطه الاجتماعي.. لهذا وجب الالتفات للحكمة بدل التكهن بصحةإيمان الناس الذي يجرنا لصراع لا آخر له..
بيد أن الحكمة- مثل مفهوم الإيمان- كما نتصورها في أذهاننا هي مشوهة وتفتقر للدقة. فحين أقول الحكيم هنا لا أعني تلك الصورة النمطية للشيخ ذي اللحية الطويلة البيضاء الذي يلقي مقولات مختصرة وجذابة على الدوام. وإنما أقصد هنا الحكمة بمعناها الأصلي في اللغة والاصطلاح والشرع.. فمعنى الحكمة الأول هو المنع فيقال:"حكمة الدابة" لأنها تمنعها" (91/11)..

هذا في اللغة.. أما عند علماء التفسير والفقه فالمعنى رغم تعدد اتجاهاته لا يختلفُ. فعند القرطبي:هِيَ الصَّوَابُ فِي الْمُعْتَقَدَاتِ وَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ وَالْعَقْلِ.((59/14)/12)

"وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك: أنها معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل. وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن والفقه في شرائع الإسلام، وحقائق الإيمان." بحسب ابن قيم الجوزية الذي سبق وقال أن الحكمة نوعان مفردة:"ومقترنة بالكتاب. فالمفردة فسرت بالنبوة، وفسرت بعلم القرآن" والأخرى مقرونة، "وأما الحكمة المقرونة بالكتاب فهي السنة. كذلك قال الشافعي وغيره من الأئمة".(231/14)

ويشترك المفسرون في أن الحكمة تعني العلم، وأن العلم يتأتى بالإصابة في الأمور، أما التعدد في تعريفها كما سبق يرجع لموقعها في القرآن ولهذا جمع الفيروزآبادي التفسيرات كلها في قوله:"والحِكمة: العدل والعلم والحِلم والنبوّة والقرآن والإنجيل وطاعة الله والفقهُ في الدين والعملُ به أو الخشية أو الفهم أو الورع أو الإصابة في القول والفعل التفكر في أمر الله واِّتباعة"(487/12)

لم ينتبه الكثيرون لمسألة العلم ودرجاته من المتأخرين.. لانشغال العالم الإسلامي باتهام الناس بضعف الإيمان وتبديع اعتقاداتهم..عوضا عن إعلامهم بأمور دينهم

ثم استدرك في موضع آخر ليشدد على تفسيرها بالمعرفة والعلم فيقول: وأما الحِكمة فمن الله- تعالى- معرفة(الأشياء وإيجادها) على غاية الإحكام والإتقان، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات.(490/12)

"فتفسيرها بالإصابة، أو بالفهم، أو بالعلم، أو ما يشهد العقل بصحته، أو المنع من السفه، أو المعرفة بالله، كلُّها عندي تفسيرات متقاربة"(19/16)
وفي مقارنة بين تطبيقات الإيمان الذي يحوز على نسبة ضئيلة من العلم المحقق وبين تطبيقات الحكمة نجد أن الإيمان مفهوم مركب ومعقد وأن عروقه تمتد لتشمل الأعمال الخيرة والطاعات، إذ يقول الحديث: الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). (38/14). فهو شُعَب تصل لأكثر من سبعين كلها طاعات متصلة بالاعتقاد الغيبي حتى تصل لقمة الهرم وهي لا اله إلا الله" حيث توجت هذه الشهادة بأنها أفضل الأعمال كما جاء في الحديث:"أن رسول الله ص سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال:(إيمان بالله ورسوله). (16/10)

فالطاعة التي تفعلها كلها منحصرة في الإيمان، أما عند النظر في الحكمة فنجدها أيضا شعبا كثيرة.. لكنها غير تلك التي في الإيمان فتطبيقاتها متفرعة في الحياة العملية وتشتمل في كنفها السياسة والمجتمع والاقتصاد.. إن الحكمة ليست محصورة في أمور الدين فقط وإنما الدنيا كذلك.. فقد ورد في لسان العرب أنها"عبارة عن معرفة فضل الأشياء بأفضل العلوم. ويقال لمن يُحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم."

ولهذا نسمي الطبيب الذي يشخص الأمراض ويركب الدواء(الحكيم) ونجد الحكمة أيضا في مجال الفنون التي تحمل عبراوتحث على الارتقاء، لهذا جاء في الحديث:إن من الشعر حكمة.(2276/15)

وتتفرع الحكمة لتفيد العدل فمن تعريفاتها: القضاء.(149/16)

وأخيرا في مجال السياسة والإدارة فيشير معجم لسان العرب أنه نُحتَ من الحكمة مصطلحا: الحاكم: "والحكيم يجوز أن يكون بمعنى الحاكم مثل قدير بمعنى قادر". وكذلك مصطلح الحكومة:"وأصل الحكومة رد الرجل عن الظلم ". فتقابلنا في سورة ص آية 20 في قوله:(وشددنا مُلكه وآتيناهُ الحِكمة وفَصْلَ الخِطابِ)
في هذا العرض لاشتقاقات الكلمة، نجد جوابا لسؤالنا في المقدمة: هل الذي يبدو لنا تقيا مؤمنا"يخاف الله" كما اعتدنا أن نقول هو الأجدر للسياسة والإصلاح أم هو الحكيم الذي يتوفر على الإصابة والخبرة والتخصص؟

ومن هنا نصل للمحطة الختامية وهي أن تفرعات الحكمة تطبيقية عامة.. بينما تفرعات الإيمان شخصية غيبية ورغم تكاملهما إلا أن العلم/الحكمة تفوق قرينها الإيمان في الحياة العملية كما وضحنا.. لكن هذه الأيام التي يقضي فيها الناس وقتهم في المزايدة على بعضهم ليُقتل من يُقتل بدعاوى جاهلة تندرج تحت انعدام الإيمان لهو إلهاء عام ومتعمد للناس وللمسلمين بشكل خاص.. فبدل أن تشتغل بتفرعات الحكمة الواضحة التي يسهل تمييزها.. وبدل أن نتنافس في الوصول إليها.. يجري العالم الإسلامي بفقهائه وبحاثه وعوامه في متاهة الحكم على النوايا.

* يشير الرقم الأول إلى رقم المرجع في قائمة المراجع ويشير الرقم الثاني إلى رقم الصفحة المأخوذ عنها.

المراجع.
(1) الطاهر الزاوي ترتيب القاموس المحيط الجزء الرابع الدار العربية للكتاب الطبعة الثالثة سنة1980
(2) محمد آل خضير، الإيمان عند السلف ج1، مكتبة الرشد، الرياض-السعودية، الطبعة الثالثة 2009
(3) ابن عثيمين مجموع الفتاوى والرسائل، ج1، جمع وترتيب: فهد السلمان، دار الوطن للنشر، السعودية، 1413هـ
(4) ابن تيمية، مجموع الفتاوى. المجلد السابع .جمع وترتيب: عبد الرحمن قاسم ومحمد عبد الرحمن، مجمع الملك فهد، المدينة المنورة-السعودية 2004
(**) المرجئة فرقة عقائدية كلامية ظهرت بوضوح عقب مقتل الخليفتين عثمان وعلي، وسميت بذلك لأنهم" أرجأوا" الحكم على الانقسامات التي حدثت بين المسلمين بعد مقتل الخليفتين عثمان وعلي وأطلق الإسم من بعد على القائلين بإرجاء العمل على النية.. استنادا للآية( وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم).
(5) اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ج1، تحقيق أحمد الغامدي، دار طيبة (د.ت)
(6) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، الإيمان الكبير، جمع وترتيب: عبد الرحمن قاسم، ومحمد عبد الرحمن، مجمع الملك فهد، المدينة المنورة- السعودية، 2004
(7) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، الإيمان الوسيط جمع وترتيب: عبد الرحمن قاسم، ومحمد عبد الرحمن، مجمع الملك فهد، المدينة المنورة-السعودية، 2004
(8) صحيح البخاري، كتاب الإيمان باب : سؤال جبريل النبي ص عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة . حديث رقم 50 ( ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه وبرسله وتؤمن بالبعث)
(9)ابن فارس/معجم مقاييس اللغة، المجلد الثاني، المحقق: عبد السلام هارون، دار الفكر، 1979
(10) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم اطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة الطبعة الثانية 1964
(11)ابن القيم الجوزية، تفسير القرآن الكريم، إشراف الشيخ إبراهيم رمضان، مكتب البحوث والدراسات العربية و الإسلامية، دار الهلال بيروت
(12) الفيروزآبادي، تحقيق: محمد على النجار وعبد العليم الصحاوي، الجزء الثاني المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية سنة 1996
(13) د. زيد عبد الكريم الزيد، الحكمة في الدعوة إلى الله تعريف وتطبيق، دار العاصمة، موقع الكُتيبات الإسلامية (د.ت)
(14) صحيح مسلم، كتاب الإيمان باب 12 : شعب الإيمان- حديث رقم 58
(15) صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب90 : ما يجوز من الشعر الورجز والحداء وما يكره منه، حديث رقم 5793
(16) الطاهر الزاوي، مختار القاموس، الدار العربية للكتاب 1983