Atwasat

أحزان بنغازي

محمد محمد المفتي الأحد 17 مايو 2015, 08:52 صباحا
محمد محمد المفتي

 ( 1 ) والـعـود أحمــد
مشاهد الخراب والدمار والانهيار الخدمي تصادفك في كل مكان وزاوية من مدينة بنغازي. كلها أمست مألوفة، وكذلك شكوى النازحين، وتذمر الناس من توقف المدارس وتـدهـور الخدمـات الصـحية.. وقلقهم من سقوط قذيفة عشوائية في شارع أو ميدان أو على منزل آمن.. نعم الشوارع مكتظة ســاعات النهار، وإلى الثامنة أو التاسعة مساء، في مدينة كانت تســهر إلى بواكير الصباح كأي مدينة عالمية مزدهرة.

كانت الرحلة نحو بنغازي من مطار الأبرق بعد منتصف الليل نظرًا لتأخر رحلاتنا الجوية التونسية والليبية. المطار أنظف وأكثر تنظيما مما كان عليه قبل ثلاثة أشهر. وكانت الرحلة عبر الجبل الأخضر مريحة في طرواة الجـو. مررنا على حوالي 8 نقاط تفتيش أو استيقاف كما تسمى الآن، مجموعات صغيرة من الجنود، دون تـوتـر أو فظاظة.

حين افتربت سيارتنا من مدخل بنغازي الشرقي، هذه المدينة التجارية عبر تاريخـهـا... كانت حركة البناء واضحـة على ضفتي الطريق في الكويفية وبودزيرة والسلماني.. محلات من كل لون.. استجابة لرغبات التجار الذين أقفلت أو دمرت محلاتهم داخل مناطق الحرب. مؤشر مؤسف لكنه إيجابي ينم عن رغبة الناس في السلام ومقاومة الموت. في تلك الساعات المتأخرة كانت المدينة هادئة صامتة، كأي مدينة آمنة، تتـلألأ أضواؤهـا، على خلفيةٍ ظــلمـاء تطمس الواجـهـات المبقعة بضربات الرصاص والمدفعية، والنفايات المتراكمة لتعطل أعمال النظافة نتيجة عدم دفع رواتب عمال شركة الأشغال العامة.

وصلنا البيت في شارع دبي.. الشارع الذي نهض قبل سـنوات في زمن القذافي، كشارع تجاري قام بجهود القطاع الخاص في آواخـر حقبة التجارة المؤمـمـة والقطاع العام... وترسـخ إسـمه غير الرسمي تيمـنـا بازدهــار دبيّ الإماراتية، فكان بمثابة تحدٍ لنظام شــاخ وتحولت طــاقــاتـه إلى ضرب من الاســتبداد العبثي.

وعبر كـتـل الأوراق والنفايات والتراب دخلنا البيت.. الذي أشــعرنا بعد غياب أسابيع، براحـة نفـســية.. راحـة الـعـودة التي يولدهـا ارتباط السنين بالمكان.. وسريعا قـادنا التعب إلى النوم، على صوت السيارات العابرة المتـقـطـع.. بدلا من ذلك الصمت المقلق المتوجس وأصوات الانفجــارات التي كانت إيـقـــاع الأشــهر الماضية.

وفي الصباح أشرقت الشمس على حركة السيارات المتزايدة. لكن هل انتهت الحرب؟

أعدت تركيب بطارية السيارة فـعـادت لها الحياة، وتمنيت لو أن ساسة وعسكريي ليبيا يهديهم الله ويتفقوا على هدنة لإيقاف إطلاق النار لتنبعث الحياة من جديد في أوصال ليبيا.

أعدت تركيب بطارية السيارة فـعـادت لها الحياة، وتمنيت لو أن ساسة وعسكريي ليبيا يهديهم الله ويتفقوا على هدنة لإيقاف إطلاق النار لتنبعث الحياة من جديد في أوصال ليبيا. وخرجت عند الضحى.. في الشارع التقيت الوجوه المألوفة.. أصحاب المحلات المجاورة، وبعض رواد المقهى الشبابي القريب.. وصولا إلى محل الخضــار للشاب المصري"يمني" الذي نـزح هـو أيضا تاركا وراءه صديقه أحمد.. ثمة لافتات وأسماء وخـدمات جديدة على بعض الواجـهـات.. تعكـس تكـيفـــات الحرب.

عـدت إلى البيت بشكاير الخضار، ربما بضعف السعر المعتاد.. لكنه ما يزال بنصف السعر باليورو في أوروبا.

قرب العصر، استطعت بشيء من الصعوبة إخراج سيارتي إلى الشارع المزدحـم بالسيارات.. ولا يزال الليبيون عدوانيين مستعجلين في قيادة السيارات. في شارع"الشجر" كانت حركة المقاهي واضحة.. أحدها بجوار محطة بنزين أو" شــيل بـــُـوكـر" نسبة لصاحبه المحـجـوب بـوكـر حارس مرمي كرة القدم في أحد النوادي، الذي احتفظت المحطة باســمه مثله مثل شيل المالطي وكانــون، رغم كل التقلبات وأيلولة ملكيته لآخرين إثر تأميمات 1979 تحت شــعار التجارة استغلال.

البنزين متـوفـر، كما لاحظت أن المقهى المجاور للمحطة، والذي كان في السابق قليل الرواد، قد كثر زبائنه، ومعظمهم من شــباب الحي.. لأنهم أمسوا يفضلون البـقــاء قرب بيوتـهـم خشية الصواريخ العشوائية.

لكن رواد المقاهي الشبابية لم ينـجــوا من انتقادات المسلحين المدافـعـين عن أحيائهم في مناطـق المواجـهــات. يتسـاءل هـؤلاء، كيف يقف معظم الشباب على الحياد، يتـجـادلون، بعضهم يؤيد الجيش، وآخرون ينتقدون الجيش لما لحق المدينة من دمـار نتيجة اســتعـمال الدبابات ومدافــع هـوزر الميدانية. وبعضهم يتبنى وجـهـة نـظـر الإسـلاميين( الدروع، المليشيات، أو داعش كما يقولون). أليس من حـق المرء أن يبقى محايدا تعبيرا عن رفضه لمبــدأ الحرب والاقـتـتـــال؟ وللأســف يـســتـثـمر البعض هـذه الخــلافات لترويج نـغـمـة الحضر والبـادية، وهي فـتـنـة خـطـرة. لكن بنـغــازي التي تأسـســت وتـطـورت منـذ 11 قرنــا، كانت دائـمــا قــادرة على تـجــاوز هـذه الانـقـســـامات... فـوشــائج التصــاهـر وتداخل المصالح في بنغازي كانت دائمـا وراء حـيــوية المدينـة التي منحـتـهـا اسـتـقـرارهـا وسـمـحـت لهـا أن تبقى وتنمو وتـزدهـر.

قبل صلاة الجمعة توجهت إلى بيت شقيقتي الكبرى القريب من شـارع"الماركات". شارع قصير يربط بين طريقي الزيتون والبيبسي، نهض ســنة 2012 بسرعة عجيبة، ليتقسم إلى محلات للأسماء اللامعة، آديداس، نايك، ســامسونج، نوكـيــا وغـيـرهـا. الآن معظمها خاوية.. مفرغة من البضائع.. لم تتعرض لسرقة.. لكن زبائنها إما غادروا أو أفلسوا. إنه الركود الاقتـصـــادي! باب بيت صـهـري حديد مسلح. ضغطت علي الجرس دون إجابه. شاب مار قال لي"الضيّ مقطوع م الصبح يا حاج. طرقت الباب". اكتشفت حجرا في الشرابية... أداة مهمة لكي يسمعك صاحب البيت. لكن لا تليق بفيلا. وهـكــذا يرجـعـك انقطاع الكهرباء إلى حياة العصور الوسطى. تذكـرت وطلبتها علي الموبايل. فردت وفتحت.

كيف حالكم؟

الحمد لله. لكن الناس تعبانه. مره نحمقـوا. ومره نسكتوا.

كيف حال الاولاد؟

كويسين. كل واحد في بلاد. الحمد لله تزوجــوا ويعملوا. شــقـوا طـريـقـهـم، مستـقـرين. تهنـّـينا عليهم.

وعلق صهري:"واللـه أنا ما تحملـت القعـده بره. مشينا لـفـّـينا. الحياة مـريـحــة هـنـاك.. لكن ما قدرناش ننسوا البلاد. نتابعـوا في أخبارها. تلقى روحك قـــدام التلـفــزيون. والإعلام يبالغ. غادي ما نديروا في شيء وحتى هنا مانديروا في شيء. اللهم الواحد يبقى في بيته أحسن... مره مره تلقى صاحب على الأقل. من أســبوعين وقع صــاروخ بالمنـطـقــة.. لكن الأعـمـــار بيـد اللـه".