Atwasat

معركة طرابلس القادمة*

محمد محمد المفتي الثلاثاء 14 أبريل 2015, 04:47 مساء
محمد محمد المفتي

لا شك أنّ عنوان هذه المقال، سيعيد للأذهان جوانب من تاريخ الحرب العالمية الثانية. وفعلاً، فـقـد دخل الجيش البريطاني الثامن طرابلس في يوم 23 يناير 1943. ولقيت جيوش الحلفاء استقبالاً ترحيبيًّا من الليبيين. وتم تأسيس إدارات عسكرية مؤقتة بقدر كبير من النجاح وبهامش واسع من الحرية السياسية. وفي نهاية العقد، منحت الأمم المتحدة، أقاليم ليبيا الثلاثة، طرابلس وبرقة وفزّان، اسـتقلالها كدولة ملكية موحــدة، فيدرالية برلمانية.

وبالمثل ما كان سقوط دكتاتورية القـذافي ممكنا لولا معونة الحلف الأطلسي في عام 2011. وقـد حظي قادة دول الأطلسي بترحاب مشابه. لكن هذه المرة، نسي الغرب أن يتـمّ مهمته، وغادر البلاد تاركًا وراءه فراغًا لا قاع له، وفوضى عارمة.

وها هي ليبيا، بعد أربع سنين من اندلاع ثورة فبراير، بحكومتين في طبرق وطرابلس، في خـضم صراع سلطوي عنيف. لكن ما هـو قادم قد يكون أسوأ، وقد تتصاعد حدة القتال لترمي العاصمة طرابلس في حمام دم مرعب.

المـشهد بعد الثورة
ثورة فبراير 2011 كانت إلى حـد كبير، دون قـيادة منظمة، ولهذا انتقلت السلطة إلى عـدة جماعات غير متجانسة، ومتناحرة. وتصدّر السلطة سياسيون ذوو طموح، بعضهم دون رؤية سياسية، وبعضهم فاسد الذمة. وشكل هؤلاء إدارات ضعيفة ضمت في البداية إسلاميين معتدلين (إخوانًا مسلمين).

أمّا الشباب الذين شاركوا في القتال والذين اكتسبوا سمعة كمقاتلين شجعان، فـسرعان ما عـكـفوا على تأسيس تشكيلات مقاتلة أو مليشيات، استقرّت في المعسكرات القديمة، واختزنت كميات كبيرة من ترسانة القذافي الهائلة. ومن جهة ثالثة بقيت أجزاء من الجيش الرسمي متماسكة كما في حالة كتيبة الصاعـقة في بنغازي، وكتائب أخرى عديدة في طرابلس.

من جهة أخرى تزايدت شكوك الرأي العام في الشارع السياسي الليبي، في جدوى خلط السياسة بالدين، وهـو ما أكدته الانتخابات المتعددة التي أجريت بالبلاد. وكنتيجة لتلك التحولات، ظهر برلمانان وحكومتان، في العاصمة ومدينـة طبرق، ممثلتان لذلك التأقطـب السياسي، وكل يدعي الشرعية.

واسـتمرت تلك الترتيبات متأرجحة في مـشهد متوتر وهش. لكن استمرار تصدير النفط أمّن دفع المرتبات وتغطية دعم السلع الغذائية.

واستمرت تلك الترتيبات متأرجحة في مـشهد متوتر وهش. لكن اسـتمرار تصدير النفط أمّن دفـع المرتبات وتغطية دعم السلع الغذائية. عدا هذا، بقي ويبقى الاقتصاد راكدًا وإدارات الدولة مشلولة، والمدارس والجامعات مغلقة. بل إن الخدمات الأساسية معطلة، من تنظيف الشوارع إلى المصارف. كما أجليت عشرات الألوف من العائلات عن بيوتها وأحيائها وقراها. وآخرين لم يترك لهم خيار سوى اللجوء إلى دول الجوار.
في البداية ولعدة شهور، كانت العاصمة تحت هيمنة كتائب تنتمي لبلدة الزنتان الجبلية، والتي اكتسبت سمعة بطولية في مواجهة قوات القذافي، لكنها فشلت في ضبط أمن مدينة طرابلس الحضرية.

وبعد شهور، شنّت قوات فجر ليبيا المكونة من تحالف بين مصراته وتشكيلات إسلامية، حملة قصيرة، وسرعان ما نجحت في بسـط سيطرتها على كامل طرابلس ذات المليوني نسمة. كانت أيضًا حملة شرسة، أحرقت مطار طرابلس وخزانات الوقود الضخمة، التي بدت كما شعلة تشهد على عدوانية وإفراط البشر. وبالمقابل انسحبت كتائب الزنتان أو أجبرت على ذلك.

إحياء الجيش النظامي
ومؤخرًا، بدأت التحالفات القديمة تتشقق، ربما تحت إغـواء المشاركة في حوار المصالحة برعاية الأمم المتحدة، وبفضل ضغوط الدول الكبرى وكذلك نتيجة تزايد الخلافات الداخلية، التي تولدت كنتاج ثانوي لظهور تنظيم الدولة الإسلامية في شمال أفريقيا.

في نفس الوقت، شهدت ليبيا إعادة تشكيل الجيش النظامي تحت قيادة الفريق خليفة حفتر، وبأسلحة جـديدة ربما جاءت من مصر وروسـيا. ويوجه هذا الجيش الوطني نيرانه نحوالمسلحين الإسلاميين في بنغازي منذ شـهر مايو الماضي. وخلال الأسابيع الماضية نشر الجيش الوطني وحـداته في غرب وجنوب طرابلس.

فـجر ليبيا
وفي ظل هذه التطورات، أعادت مصراته حساباتها، وهي التي خرجت في حقبة ما بعد القـذافي، كأقوى دولة–مدينة، في الأرخبيل الصحراوي الليبي. من ذلك مثلاً، أنها سـحبت قواتها (الشروق) من منطقة الهلال النفطي شرقي سرت. كما تمت إقالة رئيس وزراء حكومة طرابلس، على الأرجح نتيجة حثّ من زعامة مصراته الجديدة، التي حسب تفسير المراقبين المحليين، تفضل إبعاد نفسها عن رموز الجماعة الليبية المقاتلة المتشددة التي كان يقودها عبد الحكيم بلحاج.

مثلث الحرب
الأكيد أن الصورة السياسية العسكرية لليبيا معقدة، ومتداخلة. لكننا نسـتطيع الجزم بأن حربًا شرسة تدور رحاها منذ أسابيع في سـهل الجفـارة الواقـع جنـوب وغرب طـرابلس. لكن المفارقة تكمن في أن العدويّن اللدودين، وهما جيش حفتر الوطني، وقوات فجر ليبيا التابعة لمصراته، يحاربان جزئيًّا نفس العدو، وتحديدًا المسلحين الإسلاميـين في بنغازي وسـرت، على التوالي.

الكابوس
الجانب المظلم للحرب الحالية في طرابلس، هـو الثارات الجانبية، والانتقامات المتوقعة ضد الزنتان وضد مدينـة الزاوية. وعلى سبيل المثال، لدى قبيلة ورشفانة غضب وإصرار على القصاص، بسبب ما عانوه قبل شهور عندما عبر مقاتلوا فجر ليبيا منطقتهم الممتدة على محيط طرابلس من البحر إلى المطار.

وغني عن القول أن الحروب تطلق عـنان أبشع المشاعر وشتى صنوف السلوك الانتقامي. ومن الملفت أن زعامة الزنتان، تحسبًا لذلك، قـد أصدرت بيانًا تتبرأ فيه من أيّة مسئولية جماعية، عن أية جرائم ضد الإنسانية يمكن أن يرتكبها أبناؤهـا الذين قد يشاركون في حرب طرابلس القادمة. من جهـتها، أصدرت قيادة قبيلة ورشفانة بدورها بيانًا تطمئن فيه أهالي الزاويــة، مؤكـدة أن الهجوم المرتقب إنما هـو موجه إلى فجـر ليبيا وأعـوانهم وليس ضد مواطني المدينة. لكن هـذه البيانات، حتى بافتراض حـسـن النوايا، تبقى محملة بالخوف مما هـو آتٍ.

إن ما نراه الآن، لهو أشبه بالدخان الذي يسبق انفجار البركان. وبكلمات أخرى لا يجب أن نسـتسـلم لوهم الأماني والأمل، ولا أحد يجب أن يفـاجأ بما قد يحدث. ويجب أيضًا أن ندرك محدودية جهود الحوار الساعية لوضع ترتيبات دستورية لتسوية الخلاف بين الأطراف الليبية المتنازعة. وفي قناعتي أن علينا التركيز على تحقيق هـدنة ووقف لإطلاق النار برعاية المجتمع الدولي، وتقوم بمراقبتها قوات ليبية من مناطق خارج دائرة الصراع، على أمل مع مذبحة كابوسية لا تبقي ولا تذر.

* كتب هذا المقال أصلا باللغة الإنجليزية، وهـو موجـه للرأي العام الغربي، وقد ترجمه إلى العربية الكاتب نفسـه.

د.محمد محمد المفتي: سجين سياسي سـابق، وباحث في التاريخ الاجتماعي الليبي وله عدة كتب في هذا المجال، كما سـجل يوميات ثـورة فبراير، في كتاب بعـنوان"ذاكرة النار".