Atwasat

(التهميشّ) و طبائع الآستبداد

نورالدين خليفة النمر السبت 03 يناير 2015, 11:28 صباحا
نورالدين خليفة النمر

المجتمعات الغربية التي هيمن عليها الاقتصاد الرأسمالي وغيّرت في النصف الثاني من القرن العشرين ثورةُ(التقنية الصناعية) وتطوّراتُها غيرُ المسبوقة تاريخيا، بنياتِها الاجتماعية والطبقيّة، لم يعد ثمة وجود واضح فيها لطبقة اجتماعية محدّدة كالطبقة العمّالية تنتج عمالة كادحة(بروليتاريا) تقود ثورة مجتمعية نظرّت لها أفكار(ماركس ولينين)، أو تكوين شبه طبقي فلاحي(كولاك) يحتذي النموذج الأوروبي للماركسية فينخرط فلاحوه مرة أخرى في مسيرة(الألف ميل) لدّك قلاع الإقطاع في السهوب الآسيوية مَلَهمين بأشعار(ماوتسي تونغ) التحريضية وأفكاره المبثوثة في الكرّاسات النظرية التي يمكن للثائر المقاتل طيّها في جيب سترته. هذه المتغيّرات الجوهرية التي ألمّت بالمجتمعات الرأسمالية وتوابعها الكومبرادورية دفعت مفكرين كـ (هربرت ماركوزة) أن يدرج قوى أخرى مؤهلة للقيام بعملية احتمالات التغيير المجتمعي في الغرب لتموقعها خارج سياقه الرأسمالي: كالعاطلين عن العمل، والهامشيين والذين لامأوى لهم، والسود، والنساء.

(الطلاّب) وهم الأكثر أهلية للتغيير المجتمعي في نظريته، بتموقعهم خارج سياق الإنتاج الرأسمالي والطبقات، هم من يقودون، عام 1968 ، أخطر ثورة برجوازية بعد الثورة الفرنسية تهزّ في العمق بنى المجتمع البرجوازي الأبوي(البطرياركي) وقواعده الرأسمالية التي تأسس عليها، مبوِّئة لهم قيادة قوى التغيير المجتمعي التي أسسّها زلزال 1968 والتي ستقود قطار الثورة التي ستعاد صياغتها بشكل جديد في المشروع المجتمعي المدني الذي، عدا مضادته التقليدية لكل أشكال العنف الفردي والاستغلال والتمييز الإنساني والعنصري، وقف متصدّيا لمخاطر الحروب والمفاعلات النووية وأضرار نفاياتها، وعديد مظاهر التلوث التي تُحدث أو تنبئ بحدوث الكوارث البيئية العالمية.

بعد عام من زلزال الثورة الطلابية الأوروبية، أي في خريف عام 1969 في ليبيا الملكية الشائخة والمسالمة، التي صارت تسبح فجأة فوق بحيرة من النفط والتي لم يعصف خريفها ذلك العام بأوراق الأشجار والأفكار مثل أوروبا، بل عصف كعادته برياح القبلي المثقلة بالرمال، واستثناء بالعساكر المغامرين الذين سيقذف بهم خارج الثكنات المتوفّزة، والمتربصّة ، وقْعُ موسيقى انقلاب عسكري تلا بيانه الأوّل من فرع الآذاعة في المدينة الكبرى الثانية بنغازي ضابط ثلاثيني شاب برتبة(ملازم أول)! تبيّن بعد أيام أنّه قائد الانقلاب وترّت نزوة المغامرة حباله الصوتيه، وهيمنت لكنته البدوية الفظّة على مخارج حروف كلمات البيان الانقلابي الذي لم يكن يحوي في ثنايا سطوره سوى الحذلقات المثيرة لمشاعر الدهماء والشعارات ذات المبعث الشعبوي التي مازالت حتى ذاك الوقت تؤجّج الأوهام في نفسية الجماهير العربية المصدومة من هزائم جيوش دولها أمام جيش ماكانت تطلق عليها أبواق الإذاعات في البلدان العربية المنهزمة استصغارا( دويلة إسرائيل).

لقد نجح انقلاب الجيش على الملكية الليبية عام 1969 في تهميش وإزاحة أدوار قوى اجتماعية أفرزتها التشكيلة الاقتصادية التاريخية لحقبة مابعد الاستعمار والتي أرست أرضية ملائمة لبروز ما أطلق عليه تسمية الوطنية الليبية، التي كان الطلاّب أبرز شرائحها الاجتماعية وعيا وتأثيرا في المجتمع والسياسة، لتميزّهم بسبب انخراطهم في البرنامج التنموي التعليمي عن أميّة أغلب الشرائح الاجتماعية الأخرى، ولما مثّلوه من قوّة تغيير ضاغطة على المشهد السياسي الستيني في ليبيا الملكية التي بدأ ريع النفط يغيّر قواعدها الاجتماعية. إلاّ أن الانكفاء السياسي الذي كان من تبعات تجميد الحياة الحزبية العفوية التي ولدّها الحراك الشعبي المطالب بالاستقلال، وما تلاه من انخراط الدولة في برنامج تنموي أسّس له ريع النفط، ولم ترافقه أيديولوجية سياسية ذات مضمون عصري، تلّبي تطلّعات الشرائح العمرية الشّابة والمتعلّمة، الأمر الذي بوأ الطلاّب صدارة النشاط السياسي، فيّما وصّف تاريخيا بالحركة الطلابية التي لم تكن توّجها طبقيا، بقدر ماكانت انعكاسا لفاعلية أغلب شرائح المجتمع الذي لم تتحدّد طبقاته ومكوّناته والتي كان نشاطها وانكماشها تأثرا بالمناخ السياسي الذي يسوده، والذي لاينفصل فهمه وتحليله بمعزل عن فهم الواقع السياسي الليبي واتجاهات القوى السياسية المؤثرة فيه والتي كانت في أغلبها صدى للتوجّهات القومية العربية التي لم تكن تمّس في العمق خصوصيات التركيبة السياسية الليبية وبناها الاجتماعية.
كان هذا هو واقع الحال في ليبيا قبل أن تستحكم طبائع الاستبداد التي شرعت بعد عام 1976

لقد أحكم الاستبداد انسداد المجتمع الليبي وقلّص تكويناته الاجتماعية في دائرة الانفصال بين الشعب الذي تميعت محدّداته الطبقية والمجتمعية

في تغييب الطلاّب بالتدريج حتى تلاشى تأثيرهم نهائيا ليختفوا كقوّة سياسية ظاهرة على مسرح ثورة التحرير الليبية في 17 فبراير 2011 . بالتوازي مع ذلك ولما يربو على العقدين من الزمن طالت طبائع الاستبداد فئات اجتماعية واسعة من الليبيين حاق بها نمط من التفقير الفوضوي والمبرمج سياسيا يمكننا أن نطلق عليه اسم(اقتصاد التفقير النفطي) انفردت به ليبيا دون غيرها من البلدان النفطية فيما سمّي بالعالم الثالث. وقد اعتمد رأس النظام عبر هذه العقود الثلاثة عددا من آليات الفوضى بدأت مبكرا في1973 بعد ثلاث سنوات من انقلابه بما سمّي(الثورة الشعبية ) التي عطلّت القوانين وأربكت الإدارة، وخلخلت أسس البدايات البيروقراطية الناجعة التي أسسّت لدولة الاستقلال، أعقبتها العسكرة الفوضوية للمجتمع التي أفسدت، بدءا، مؤسسة الجيش نفسها التي قادت الانقلاب، لتتبعها بالإفساد هياكل الإدارة والتعليم والاقتصاد، وبالتوازي معها أُعدّت حملات مبرمجة أطلق عليها مسمى مفارق هو(التحوّل إلى الإنتاج) طالت بالتعطيل أعدادا كبيرة من العاملين في مجالات الإدارة والخدمات وكدّستهم في مشاريع شبه زراعية، وصفت بالإنتاجية، متوقّفة وفاشلة كان الهدف الأساسي منها بث الإحساس بمجانية العمل، وبذل الجهد، وتعمّد إهدار الوقت بإشاعة الفوضى، لتكتمل الحلقة بتعميم المبدأ الفوضوي الأغرب في التاريخ وهو ماسمّي بجمهرة المواقع الذي قضى على معايير النجاعة والخبرة والجدوى، وأنساق النظام والتراتب والتطور، إلى جانب كل ذلك اتّبعت سياسة مبرمجة قامت على التهميش الاجتماعي والمناطقي أفرزت تلك الفئات غير المحدّدة طبقيا والتي تدافعت متصدّرة المشهد الثوري الذي انبثق في 17 فبراير2011 وراء مطالب تنادي بالتغيير وترفض التهميش والإقصاء.

وهذه الفئات التي يمكن وصفها اجتماعيا دون تحديد علمي بــ(المهمشّة ) يكوّنها مبدئيا : المعطلّون عن العمل وجلّهم جنود ومجندّون سابقون أُدرجوا في الخدمة العسكرية حسب صيغها الفوضوية المختلفة، التي شملت تقريبا جميع الليبيين، وسُرّحوا تعجيلا بقيام ماسميّ بنظرية الشعب المسلّح ليتقاضى بعضهم معاش إنهاء خدمة تآكل تدريجيا مع مدخراتهم الأخرى فيما شهده بدء الألفية الثالثة من تضخّم انفتاح اقتصاد الاستهلاك المشوّه، الذي تفاقمت آثاره المدمّرة لأرزاق الناس ومقدّراتهم, بينما حرم كثيرهم من هذا المعاش وهم ممّن حُشّدوا في آواخر السبعينيات وبدء الثمانينيات من القرن العشريني المنصرم إبّان التعبئة لخوض الحروب المجنونة في تشاد، والمغامرات العسكرية في بقاع أخرى من أفريقيا و العالم، فجنّدوا من أعمالهم الحرة التي لم تعد وقت تسريحهم من الخدمة موجودة كالتجارة والنقل.

أو أولئك الذين تلقّفهم التجنيد الإلزامي في نفس السنوات المذكورة آنفا من مدارسهم التي انقطعوا عنها بما أطلق عليه في العلم التربوي(التسرّب المدرسي)، الذي كان رّدة فعل التلاميذ وقت ذاك إزاء الضغوط النفسية التي ولّدتها برامج عسكرة المدارس وتحويلها إلى ثكنات. إضافة لهذه الفئة ممّن أسميناهم بالمعطلّين هناك:(المتخرّجون) من مؤسسات التعليم المتوّسط والجامعي الرثّ، الملّقن والمجّهل المتعيّشون بما يسّدون به رمقهم من المبالغ الزهيدة لما سمّي(بالحوافظ المصرفية) لانسداد سوق العمل وتفشّي البطالة، كذلك جيش الموظفين من ذوي المرتّبات الدنيا المفقرّين بقانون رقم 15الذي تأبّد في هذا الرقم فلم يتجاوزه بأي تعديل أو زيادة لما يربو عن الثلاثة عقود، وآخرهم النساء(الزوجات والأخوات) المرهقات، والمنتهكات اللاتي تراكمت فوق رؤوسهن أعباء ومتاعب مجتمع الانسداد والاستبداد.

نجح انقلاب الجيش على الملكية الليبية عام 1969 في تهميش وإزاحة أدوار قوى اجتماعية أفرزتها التشكيلة الاقتصادية التاريخية لحقبة مابعد الاستعمار والتي أرست أرضية ملائمة لبروز ما أطلق عليه تسمية الوطنية الليبية

لقد أحكم الاستبداد انسداد المجتمع الليبي وقلّص تكويناته الاجتماعية في دائرة الانفصال بين الشعب الذي تميعت محدّداته الطبقية والمجتمعية وتلاشت فيما أطلق عليه بشكل هلامي وغامض مصطلح(الجماهير) والسلطة الاستبدادية التي استوفت لثلاثة عقود حزمة من البرامج الفوضوية المتضاربة والصيغ البدائية المتناقضة أسّست لها أفكار ملفّقة رمت إلى إعادة المجتمع إلى سذاجة ماسميّ بالقواعد الطبيعية لتلبية أدنى ضرورات العيش ومتطلباته بتصيّير آليات العطاء المستقطع من ريع النفط لتهمّيش المجتمع بالكامل وإزاحته عن أيّ سياق إنتاج اقتصادي تقوده رؤية معرفية منفتحة وفعّالة، يمكن صياغتها في برامج تنمية مستدامة، والاستعاضة عن ذلك بسياق اقتصادي تبعي(كومبرادوري) بدأت تؤسس بنية فساده في العشرية الأخيرة للنظام الدكتاتوري الحلقات العائلية والقرابية الزبونية.

بينما المجتمع الذي استحكمت فيه آليات التهميش بدأت تنحرف أزماته باتجاه المتخيّل والوهمي الذي تغذّيه أيديولوجية أسس لها خطاب إسلاموي عاجز رغم إدعاءاته(الأصولية) أن يكون أكثر من خطاب ماضوي تقليدي صار مع الوقت الضمانة لنجاح الكومبرادورية الإقليمية التي هي في أبعادها التبعية للإمبريالية الرأسمالية التي شكّلها تحالف المال النفطي مع هذا الخطاب الأصولي، وهو مانلحظه اليوم بوضوح في إدارة الأزمات الاجتماعية التي تعصف بالبلدان التي تحدث فيها تغيّرات بنيوية في غياب شبه كامل لمؤسسات دولة مسبقة.