Atwasat

رضوى عاشور… رحلة أخرى

نورالدين خليفة النمر السبت 13 ديسمبر 2014, 11:31 صباحا
نورالدين خليفة النمر

نقترب كثيرا من السياسة في الوقت الذي لانبتعد فيه عن الأدب بمعناه الاجتماعي الملتزم عندما نكتب رثاء في رضوى عاشور الكاتبة المصرية التي غيّبها الموت في الأيام القليلة الماضية لترحل مبكّرا وقد ناهزت الثامنة والستين عاما، عن دنيانا الفانية في عالمنا العربي الذي ما انفكّ يتفسّخ يوما بعد يوم، سياساته وثقافته، وتتفكّك عديد مجتمعاته ودوله أمام ضربات العنف الاجتماعي والتطرّف الديني والإلحاق الإمبريالي الجديد: الثلاثي الذي توجّهت له دون هدنة أو تراخٍ معركتُها الفكرية الخصبة التي غُيّبت أخيرا بتغييب الموت لها.

فإسهامها النضالي الذي ظل نشطا وفاعلا في سياق الاهتمامات العالمثالثية التقدمية حتى رحيلها في30 .11 .2014 . والذي شكّل الهّمُ السياسي حضورا لافتا فيه، هو الذي أضفى على سيرتها الفكرية، كونَها وجها بارزا في الحركة اليسارية والنسائية، تمثيلية رمزية ميّزتها عن سِيَر العديد من نظيراتها من الكاتبات المصريات المساهمات في تثوير الثقافة العربية المعاصرة.

فعدا انشغالها الأكاديمي بالبحث والكتابة في الموضوعة المابعدـ كولونيالية وتجاوز تداعياتتها في الثقافة والسياسة فيما أطلق عليه في الأدبيات العالمثالثية «التبعية». والذي توّجته دراستُها المبكّرة «التابع ينهض. عن الرواية في غرب أفريقيا»، كتبت أيضًا «الطريق إلى الخيمة الأخرى» دراسة مبكّرة وناضجة في أدب الفلسطيني غسان كنفاني، و«الحداثة الممكنة» في نهضوية أحمد فارس الشدياق الذي انفرد بكتابه «الساق على الساق»، كما أبدعت عددا من الروايات في استعادة التاريخ وترميزه كـ«ثلاثية غرناطة» و«قطعة من باريس» وغيرهما.

كتبت رضوى عاشور بخلفية انتمائها الطبقي إلى البرجوازية الوطنية المصرية وبالشعور المتوتر للمثقفة الشّابة وانفعالها المتوفِّز الوثّاب للانحياز إلى كل ماهو ضدّ أمريكي، أي رأسمالي وأمبريالي عدواني معادٍ لحق شعوب  العالم الثالث في الحرية والعدالة

لقد تمثلت لي صورة رضوى عاشور دائمًا في عقد ضّمها مع الكاتبتين لطيفة الزيات، وفريدة النقّاش. ثلاثتهن جمعن أناقة الأنوثة وعناد اليسار وشغب الثقافة. الزيات والنقاش التقيتهما، ولكن لم أتعرّف عليهما عاجزا عن تجاوز خُواف أعين رجال الأمن المتلصصة ورُهاب كاميراتهم المراقبة التي انبثّت، كما كنّا نعتقد وقتها جازمين ومتوجّسين، في كل زوايا (الفندق الكبير) في طرابلس في المنتصف الثاني من الثمانينيات من قرننا العشريني المنصرم، وهو ما منعني من إبداء إعجابي بالمسار الفكري والأدبي الذي شقته كتاباتهن وغيرهن في وجداننا نحن كتّاب ومثقفي الجيل الليبي المعروف تاريخيًا بـ(السبعيني) والذي ألقت به اهتماماته الفكرية والتزاماته السياسية عقودًا في أقبية السجون وضياع المنافي وغيابات الصمت والتهميش؛ فعازتني الشجاعة أن أقدّم لهما نفسي أثناء حضورهما صحبة كتّاب مصريين مؤتمرًا عربيًا ضد التطبيع الثقافي مع إسرئيل ضمن سلسلة المؤتمرات التي كانت تنظّمها المؤسسة الديماغوجية التي كان يترأسها أحد قومجيّي نظام الدكتاتور القذافي، والذي كان يتحسّس أمنيّا من تسرّب مثقفين ليبيين من خارج الجوقة المعتادة والمستثناة من عسف النظام والمحسوبة عليه لمثل هذه المؤتمرات المخصّصة للترويج لمزايدات القذافي وحماقاته العروبية.

الأمر الذي جعلنا نحن من بقينا خارج السجن نستنكف عن حضور هاته المؤتمرات ونعيب ضمنيا على كتاب ومفكرين عرب نحترم أشخاصهم ونقدّر كتاباتهم الانجرار في مصائد نظام دكتاتوري كان ديدنه منذ اليوم الأول من انقلابه المشئوم التنكيل بالمثقفين الليبيين وإرهابهم، فالسبب الذي أتى بي للفندق ليس التطبيع ومقاومته التي لم تكن تعنيني في سياق ما كان يروّج له النظام الدكتاتوري الجماهيري الذي هو أكثر سوءا في نظري آنذاك من إسرئيل ذاتها، بل بغرض الالتقاء بأستاذ الجماليات في كلية الآداب بالدار البيضاء المغربي (موليم العروسي) الذي قدمني له صديقي الكاتب الليبي رمضان سليم معرّفه بي، وقد كنت قرأت له بحثا تفكيكيًا (داريديا) في إحدى الدوريات المغربية حول كتابة المتصوف محمد عبد الجبار النفّري التي كانت آنذاك موضوع اهتمامامتي الأكاديمية.

أما الفقيدة الراحلة رضوى عاشور فقد التقيتها عام (2004) حيث كنت حتى ذلك الوقت أعيش مغتربًا، ومضيّعًا في ألمانيا. فكان لقائي بها في معرض فرانكفورت للكتاب وهو الفضاءالثقافي الأرقى والأرحب والذي لايمّث للفظاظة الجماهيرية الليبية الغابرة وبشاعاتها بصلة، حيث كانت ذلك العام الثقافة العربية بقضّها وقضيضها باستثناء الثقافة الليبية طبعا، ضيف شرف المحفل الأكبر للكتب في العالم، وفي ندوة من ندوات الاحتفالية العربية تقدمت لها معرفا بنفسي، وسبب وجودي في المانيا لسنوات طويلة، ذاكرا أن كتابها «الرحلة: أيام طالبة مصرية في أميركا» كان إلى جانب كتابات أخرى موضوع بحث جامعي أنجزته باللغة الألمانية حول كتابات الرّحالات والرّحالين العرب في صورة أميركا وانعكاساتها في الذهنية العربية المعاصرة ضمن متطلّبات دراستي الإضافية في علم الاجتماع السياسي في ألمانيا.

رضوى عاشور التي استغربت ربما ليبيتي ووجودي في ألمانيا، ومجيئي للمعرض، لم تأخذ كلامي على محمل الجّد ولم يلفت اهتمامها كما توقّعت وانتظرت، وهو أمر أزعجني وربما إلى حدّ ما أحبطني وخيّب توقعاتي، أن يجد ماكتبته عنها صداه لديها، وهو ماحصل في تلك الدائرة الأكاديمية الضيّقة والمهّمة في نظري حيث حظي ما قلته في تجربتها بإعجاب الأستاذة مشرفة حلقة البحث الناشطة في الدوائر الأكاديمية الألمانية بكتاباتها في النسويات الثقافية الأوروبية والزملاء الطّلاب الألمان الذين فاجأتهم الصورة الراديكالية الجرئية والمنفتحة التي قدمتها عن الكاتبة العربية المعاصرة.

عالم اليوم الذي ترحل عنه رضوى عاشور في سفرة الموت الأبدية، تترك فيه أميركا قوة منفردة عظمى، مؤثرة في السياسة العربية يقود سياستها لدورتين رئاسيتين هذه المرة رئيس ليس أبيضَ

في اليومين اللذين بقيتهما في أجواء احتفاء معرض فرانكفورت للكتاب بالثقافة العربية والذي شاركت الجامعة العربية آنذاك في دعمه ماديا، وترتيبه تفهّمت ردّة فعل رضوى عاشور اللامبالية وأرجعت انشغال ذهنها، وتشتّت مشاعرها إلى سببين: الأول: ازدحام برنامج الاحتفالية الثقافية العربية بالعديد من المشاركين الذين رُتّب حضورالكثير منهم ليس لتاريخهم الشخصي وطول باعهم في الكتابة، وتأثيرهم في تطوّير الثقافة العربية، بل لكونهم ينتمون لبلدان تساهم بسخاء في الدعم المالي للمؤسسة الثقافية التابعة للجامعة العربية أو على الأقّل تدفع مساهمتها المالية بانتظام. هذا التعامل المساوتي الرسمي الذي خلط الحابل بالنابل هو ما أثار حفيظة الكتاب المصريين وخدش إحساسهم بمركزية دورهم في الثقافة العربية أمام المضيّفين الألمان. السبب الثاني اهتمام النجوم من الكتاب العرب بالتنافس الذي يسود بينهم في مثل هذه المناسبات والذي كان مألوفا لديَّ من خلال خبرتي الثقافية في أوروبا حيث يكون من أهمّ انشغالات الكاتب القادم من البلاد العربية، هو تقديم كتبه لمترجم وناشر أوروبي، والتعريف بنفسه لدى وسيلة صحفية مقروءة أو قناة تلفزيونية أو إذاعية مشاهدة أو مسموعة ليتبوأ مكانة في مساحات القراء في بلدان الغرب المثير والساحر.

شكّل كتاب «الرحلة: أيام طالبة مصرية في أميركا» في رأيي البواكير الأولى للهوّية السياسة، الملتزمة بالخط اليساري الوطنى.

الذي صار لاحقا علامة مميّزة فيما أصدرته رضوى عاشور من كتب في البحث والإبداع. فقد اكتسى توقيت رحلتها إلى أميركا لغرض إعداد أطروحتها للدكتوراة في «الأدب الأفروـ أميركي» أهميّة تاريخية بالغة لماتبعه مباشرة لأحداث أثّرت في التاريخ السياسي للمنطقة العربية كحرب أكتوبر بين مصر وإسرائيل عام 1973 التي اندلعت بعد شهر من انطلاق الرحلة، والتطوّر الدراماتيكي الذي شهدته العلاقات المصرية/الأميركية بزيارة الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون إلى القاهرة ربيع عام 1974، أي بعد خمسة أشهر من الرحلة، حيث حشد نظام الرئيس السادات مليون مواطن مصري لاستقبال الرئيس الأمريكي، الأمر الذي شكّل انعطافة في التاريخ السياسي المصري الحديث انعكست سلبًا ليس فقط على التيار التقدمي اليساري الذي تنتمي إليه الكاتبة، والذي وُضع بكل معالمه ورموزه على القائمة السوداء، بل على المستوى الشخصي والعائلي، إذ أُبعد زوج الكاتبة الفلسطيني الشاعر مريد البرغوثي مع غيره من المثقفين الفلسطنيين من مصر حيث ظلّ ممنوعًا من الدخول إليها سبعة عشر عامًا استجابة لهستيريا التمهيد لاتّفاق السلام بين مصر وإسرائيل الذي تمّ لاحقا برعاية أميركا.

لقد كتبت رضوى عاشور بخلفية انتمائها الطبقي إلى البرجوازية الوطنية المصرية وبالشعور المتوتر للمثقفة الشّابة وانفعالها المتوفِّز الوثّاب للانحياز إلى كل ماهو ضدّ أمريكي، أي رأسمالي وأمبريالي عدواني معادٍ لحق شعوب ماسمّي في ذلك الوقت بالعالم الثالث في الحرية والعدالة والتمتّع بالحق في ثرواتهم دون استغلال وتمييز رأسمالي ظالم، الأمر الذي دفعها في يوميات رحلتها إلى الكتابة ليس عن أميركا واحدة بل عن أمريكتين في أميركا وهما مايمكن وصفهما مجازا ودون أيّ إيحاء تمييزي أو عنصري: بأميركا الزنجية السوداء ذات القلب الأبيض والتي ذهبت إليها الكاتبة مشوقة متعاطفة، فعاشت وهي المصرية ذات الجذور الأفريقية بين أفرادها رفقة العائلة، وصحبة الأهل، وثراء العواطف ودفئها، وأميركا البيضاء ذات القلب الأسود التي أدانت إمبريالية سياساتها، وجُوف رجالها، وسطحية وغباوة الكثير من نسائها.

أميركا البيضاء التي خرجت للتو من خزي مستنقعات حروبها الكارثية في الفيتنام، ودخلت في خزي مؤمراتها لترسيخ العديد من أنظمة الحكم والعسكرتيريات الدكتاتورية في أميريكا اللاتينية، ودعمت بكل ماتملك من قوة إسرئيل بإلحاق هزيمة مدوّية بالجيوش العربية في عام 1967 والشروع في قياد العرب مكرهين للاعتراف بهزيمتهم أمام عدوّهم الإسرائيلي، والتنازل أمام إملاءته عن حقهم التاريخي في فلسطين والتفريط في مصالحهم القومية لأجل قبول التعايش معه في سلام الغالب والمغلوب.

أميركا التي كان يقودها وقت ذاك الرئيس نيكسون الأبيض من بيته الأبيض أيضا راسما سياستها الملوثة بدماء ضحايا حروبها العدوانية في مناطق عديدة من العالم، والمثقل ضميره بما حاق بالشعوب من شقاء ومعاناة جراء سياساتها الرأسمالية في توسّعها الإمبريالي. وهو مادفع بشاعر التشيلي العالمي (بابلو نيرودا) أن يكرّس ديوانًا شعريًا منفصلاً في سبّ الرئيس نيكسون وهجائه والحضّ على إدانته وقتله، قبل أن تحيق به فضحية (ووترغيت) السياسية، فتقتله رمزيًا، وتنهي حقبته السياسية مجلّلا بالعار.

عالم اليوم الذي ترحل عنه رضوى عاشور في سفرة الموت الأبدية، تترك فيه أميركا قوة منفردة عظمى، مؤثرة في السياسة العربية يقود سياستها لدورتين رئاسيتين هذه المرة رئيس ليس أبيضَ، وأصوله من أفريقيا التي قدم منها أبوه مهاجرا متأخرا إلى أميركا، وهي لاتقف اليوم فقط في منطقة الانحياز الأعمى في الصراع التاريخي بين العرب وإسرائيل، كما كتبت رضوى عاشور في رحلتها، بل تأخذ مكانها في الصراعات العربيةـ العربية والإسلاميةـ الإسلامية في المنطقة بين الدول، و الشعوب والمجتمعات بل بين الأفراد ذاتهم الذين يتمزّقون اليوم متصارعين مقتتلين بسبب معتقدياتهم أي أيديولوجياتهم المتنافرة والغامضة غموض واقعهم وانتماءاتهم الفكرية الضحلة والمشوّشة والمهتزة اهتزاز ضمائرهم التي تحرّكها أطماعهم في المال غنيمة دون عمل أوجهد واستحواذهم على السلطة والسياسة دون تأهل أو دراية.