Atwasat

تلك الأيام التاريخية من فبراير

يونس فنوش الإثنين 17 فبراير 2014, 03:36 مساء
يونس فنوش

لن أدَّعي أني كنت من بين أولئك الذين كانوا يتوقعون قيام ثورة في ليبيا، على الرغم من متابعتنا لما تم حولنا من ثورتين خارقتين في تونس ومصر.  ربما لأني كنت أرى أن القبضة الغاشمة التي قبض بها القذافي على مقاليد الأمور في ليبيا، وتلك السياسة المرسومة لإخلاء البلاد تمامًا من أية قوى قد تتمكن من مقاومته أو التمرد عليه، سواء أكانت عسكرية أم مدنية، لم تكونا تسمحان بأن يحدث شيء من قبيل ما حدث في الجارتين تونس ومصر.

ولذا فقد أذهلتني، كما أذهلت الكثيرين، تلك الهبَّة العظيمة التي انطلقت منذ مساء يوم 15 فبراير، ثم أخذت تتصاعد طوال يومي 16 و17 حتى بلغت ذروة لم يكن أحد يصدقها، عندما صارت ساحة التحرير، أمام محكمة شمال بنغازي، تمتلئ بحشود من جماهير انطلقت حناجرها تهتف بالثورة وتطالب بسقوط النظام.

وأذكر أني عندما ذهبت إلى ساحة المحكمة، ورأيت تلك الحشود الهادرة، وقد تحررت من قيود الخوف والقمع، وأخذت تتعالى هتافاتها ضد الطاغية ونظامه وتطالب بسقوطه، وارتفعت في تلك الساحة الرائعة راية الاستقلال، وانطلق نشيد الاستقلال يتردد على الشفاه والألسنة عاليًا؛ عدت إلى البيت، واصطحبت عددًا من نساء العائلة، وذهبنا إلى ساحة التحرير، فكنَّ من أوائل النساء اللاتي كان لهن شرف المبادرة بالوقوف مع الرجال فوق درج المحكمة، وأذكر كيف دخلن وسط الحشود الهادرة، وهن يهتفن رافعات رؤوسهن: "ليبيا، ليبيا".

ثم أذكر كيف التقيت عددًا من الأصدقاء ممن هم في مثل سني، أي من الشيوخ، وبعد أن تبادلنا التهاني بتلك اللحظة التاريخية العظيمة، أخذنا نتشاور فيما بيننا، ووصلنا إلى قناعة بأن وجودنا في الساحة، وسط الجماهير المشتعلة حماسة وحيوية، التي أخذت تشتعل غضبًا وسخطًا مع بدء سقوط الشهداء، لن تكون فيه أية فائدة للثورة. فقررنا البحث عن مكان هادئ ربما نستطيع أن نجلس فيه بهدوء، كي نفكر في الوسائل التي يمكننا بها الإسهام في ذلك الفعل الثوري، وأسفرت مشاوراتنا عن فكرة اللقاء في الجامعة الليبية الدولية للعلوم الطبية، التي كانت آنذاك من أوليات المؤسسات التي أعلنت انضمامها للثورة وتأييدها لها. وبالفعل ذهبنا إلى هناك، ولم يلبث أن التحق بنا عدد آخر من الأصدقاء، وشرعنا في عقد جلسات متواصلة للتشاور والبحث، فيما يمكن أن نسهم به.

وإني أتذكر تلك الأيام الرائعة، وأشعر بكثير من الفخر أن كان لي شرف الإسهام في تلك الجلسات واللقاءات والمشاورات، وهي لقاءات سوف يسجل التاريخ أنه كان لها دور لا يُنكَر في إثراء حركة الثورة وترتيب أوضاعها. ولعل من أهم ما يجدر أن يُذكر في هذا السياق أننا أسهمنا في بلورة وإنجاز فكرة تأسيس "المجلس الوطني الانتقالي"، وحضرنا الجلسة التي تم فيها الاتفاق على تلك الفكرة، ثم دعمنا ذلك بالكثير من المقترحات والتصورات التي كنا نرى أنها ضرورية لقيادة حركة المجلس وتفعيل وجوده.

وجدير بالذكر أن تلك المجموعة التي بدأت العمل في هذا السياق كانت هي النواة التي أثمرت فيما بعدُ ما عُرف باسم "هيئة الدعم والمشورة"، التي واصلت العمل بهمة ونشاط لا يفتران، وأعدت من الدراسات والبحوث والمقترحات ما وثَّقته إدارة الهيئة في ثلاثة مجلدات مهمة.

ولقد تابعنا بعد ذلك، طوال مسيرة حرب التحرير، تلك المظاهر الرائعة لنضال المجتمع كله، رجاله ونسائه وأطفاله، شيوخه وشبابه، أغنيائه وفقرائه، في دعم الحرب بمختلف السبل والوسائل والإمكانات. حتى تُوِّجت بذلك النصر الباهر العظيم؛ لذا فإني أشعر بكثير من الألم عندما أسمع مقولة "الثوار"، ويتبين أن المقصود بها أولئك الشباب والرجال الذين امتشقوا السلاح وحاربوا في الجبهات، وذلك لأني أرى أن الثورة هي فعل للشعب الليبي كله، بمختلف فئاته، فلولا تلك الروح المعنوية العالية، التي عمَّت الجميع، ولولا روح العطاء والبذل التي لا حدود لها، لما كان بإمكان المقاتلين على الجبهات أن يفعلوا شيئًا.

ولعل ما يؤسفني هو أننا، ونحن نعيش الذكرى الثالثة للثورة، نجد أنفسنا قد تراجعنا إلى الخلف، ولم نحقق شيئًا من تلك الأحلام العظيمة التي راودتنا منذ اندلاع الثورة، وترسخت في نفوسنا، عندما حققنا ذلك النصر الباهر العظيم، لكن يبدو أن الانتصار على القذافي وطغمته وطغيانه كان هو الأسهل، وأن الانتصار على نفوسنا وأغراضنا وأهوائنا سوف يظل هو الأصعب؛ فحربنا ضد القذافي يتبين، يومًا بعد يوم، أنها عبارة عن جولة صغيرة من جولات الحرب الكبرى، وهي حربنا ضد أنفسنا.