Atwasat

مومياء الدولنة

نورالدين خليفة النمر الإثنين 03 نوفمبر 2014, 11:53 صباحا
نورالدين خليفة النمر

تتقاسم الانتخابات البرلمانية في تونس بعد أربع سنوات مّما سُمّي، تجاوزا بثورة الياسمين، ثلاثة مشاريع سياسية كبرى: المشروع الدولني، والمشروع الثقافي، والمشروع الاجتماعي. هذه المشاريع التي تتفارق وتتداخل مع بعضها، حسب أجندات انتخابية مثيرة وفارقة، لاتحظى فقط بانشغال الناخب التونسي وحيرته، بل تشغل المواطن والمثقف المغاربي، وبالذات الليبي الذي تربط ما تبقّى من بلاده راهنا بتونس ليس فقط وشائج التاريخ والمجتمع والمصالح، بل ارتباكات السياسة فيما سمّي بما بعد ثوراث الربيع العربي.

فالمفترض من الهوّية الجديدة للمؤسسة التشريعية التي ستصوغها اختيارات الناخبين يوم 26. أكتوبر 2014 هو أن ترسم ملامح طبيعة مؤسسة الرئاسة في انتخابات قادمة ستنقل تونس، من مرحلة التوافقات السياسية المؤقتة والطارئة التي أفرزتها الانتفاضة الشعبية التونسية، إلى مرحلة سياسية قارّة ذات مشروع اجتماعي واقتصادي مستقبلي يعد بجزء كبير من انتظارات التونسيين وآمالهم في الحرية والديمقراطية والعدالة والسلم الاجتماعيين.

المشهور لدى الليبين والتوانسة من جيلي الصبغة السياسية الدراماتيكية التي وسمت علاقة الزعيم التاريخي لتونس المعاصرة الحبيب بورقيبة الذي أزيح عن السلطة عام 1987 بتقرير طبّي أتبث عجز شيخوخته عن إدارة الدولة، بدكتاتور ليبيا معمر القذافي الذي رسمت نبوءة بورقيبية التي جاءت عفو الخاطر عام 1972 المشهدية الدموية لنهايته السوريالية بيد منتفضي ثورة 17 فبراير 2011. ولكّن المجهول تاريخيا حالة برود المشاعر التي سادت العلاقة الشخصية بين الزعيم بورقيبة، وبين ملك ليبيا إدريس السنوسي الذي أسقط عرشه انقلاب عسكري عام 1969، والتي أرجعها المؤرخون إلى امتعاض الملك من الطريقة المهينة التي اختتمت بها مكيافيلية بورقيبة وانتهازيته التي توافقت آنذاك وسياسات المستعمرين الفرنسيين إزاء حكم(الأمين باي) آخر سلالة البايات الحسنيين الذين حكموا تونس طوال ثلاثة قرون وبلوروا، فعليا، هوّيتها الاستقلالية إزاء الدولة العثمانية ورمزيا تحت علم الحماية الفرنسية.

لقد أدرك الملك الليبي بحدسه الرُواقي الذي تربّى على أخلاقيات الورع والتديّن الصوفي شخصية بورقيبة البرغماتية والمراوغة الذي لم يكتف بخيانة أمين باي الذي ساهمت شخصيته الشعبية والمتسامحة في تعبيد طريق الصعود السياسي لبورقيبة، بل إنه جيّر مشروع الدولنة الذي وضع البايات قواعده لنفسه، ناجحا في شخصنته ومماهاته في خطابه السياسي، وهو ماجعل أحد كتّاب سيرته يصفه بـ(الباي الجمهوري).

الذي جعلني أستحضر البورتريه البورقيبي برمزياته المثيرة للجدل وببصمته في المشروع الدولني لتونس الحديثة هو الحضور الراهن المثير للاندهاش للسياسي البورقيبي العتيد الباجي قائد السبسي الذي اقتحم المشهد التغييري رئيسا لأوّل حكومة انتقالية للثورة مقدّما نفسه سياسيا عبر تأليفه كتابا عن بورقيبة الذي عمل تحت توجيهه وزيرا في وظائف أمنية وسياسية متعددة، ملحقا صورته في دعايته الانتخابية الرئاسية بالصورة الكاريزمية للزعيم التاريخي الأوحد لدولة تونس الحديثة.

ساعدت التركيبة الانفصالية للانكشاريين الأجانب في تكوين بيئة حكم تقودها طبقة عسكرية أسّست لبيروقراطية

أول من تطرّف مداعبا السبسي رئيسُ حزب النهضة الإسلامي، واصفا بروزه السياسي المفاجئ واللافت، بالخارج من الأرشيف البورقيبي، بله من أرشيف البايات ذاتهم. بل إن دعابة لا نتفق أخلاقيا مع مضمونها السامّ في موقع على الفيس بوك لأحد الناشطين التوانسة الشبّان ثبتت صورته تحت إعلان لتجميع مليون توقيع مضاد لترشحّه الانتخابي مع تدّخل في ملامحها الشائخة مظهرة لها وكأنها قناع لمومياء حيّة. إلا أن المنزع الأخلاقي الذي حاكمنا به هذه الدعاية السامة لايمنعنا من إلصاق القناع الموميائي بالمشروع السياسي البورقيبي الأصل الذي، رغم إيجابياته العديدة، حرّف أسس الدولنة في إصلاح خيرالدين المدني، ووضع تونس في مأزق السياسة الذي ربما تعيشه حتى الآن.

فمشروع الدولنة هو الذي جعل تونس إستثناء من أخواتها البلدان المغاربية التي حاق بها مكر التاريخ وحيفه حيث تمتّعت بمجموعة من حظوظ التاريخ التي لم يتمتّعن بها : فقد تأسست فيها مبكّرا(القرن الثامن عشر) بوادر ماسمّي في أوروبا منتصف القرن 19 بمشروع الدولنة(statism)، بصيغة مدنية استلهمت إلى حدّ ما البوادر الفكرية التي سرّبها عصر الأنوار الأوروبي والتي اقترحها المصلح النهضوي(خيرالدين باشا) بما استقاه من ثقافة وخبرة أتاحتها له سنوات مكوثه في أوروبا.

وقد تسنى له، بحكم وظيفته في قصر أحمد باي، تنفيذّ هذا المشروع الذي تكلّل عام1861 بصدور أول دستور وضعي في عهد محمد الصادق باي نظّم الحياة السياسية، وفصل بين السلطات وحدّ من سلطة الباي مُقرّا مسؤوليته أمام المجلس الأكبر.

تمّ هذا الأمر في تجاوب مع رغبة البايّات الحسنيين الذين ترّسم مخيالهم السياسي نوستالجيا موروث التحضّر للدويلة المتماهية مع تقاليد الإمارات الأندلسية المتأخرة، والقابلة بحكم جذورهم(الكريتية) الأوروبية إلى حدّ ما لأنفاس الأنوار التي رسّخها انبلاج الثورة الفرنسية الذي انعكس على تونس إزدهارا، حيث عوّضت تجارتُها وقت ذاك عجز أوروبا الاقتصادي الذي أملته اضطرابات أوّل ثورة معولمة، بتعبيرنا اليوم ،لم تكتف بأن تزلزل أوروبا بل مسّت بتأثيراتها بقاعا أخرى من العالم.

هل ترسم انتخابات تونس القادمة ملامح جديدة لجمهورية ليبرالية ثانية

إضافة إلى ذلك ساعدت التركيبة الانفصالية للبايات(الانكشاريين) الأجانب من جهة في تكوين بيئة حكم تقودها طبقة عسكرية أسّست لبيروقراطية دولة توفّرت فيها، إلى حدّ ما ،المعايير التي صاغتها فيما بعد كتابات(ماكس فيبر) في الدولنة، ومن جهة أخرى نأت بهم انفصاليتهم عن التجاوب الضمني مع تداعيات الانحطاط المجتمعي المغاربي الذّي أرّخه مفكر إسلامي مغاربي معاصر بـ(عصر مابعد الموّحدين) تمثّلا للحنين الموّحدي الذي استلهمته الأقوال الخلدونية في موضوعة الحضارة المؤذِنة بخراب الدولة. كما أن(العمران البشري)، بالتعبير الخلدوني، المكوّن للمجتمع في تونس القرن 18 والذي سعى مشروع الدولنة الى تحديثه، لم تعّد تهيمن عليه بشكل كبير انقسامية المجتمع التي أنتجت انسداد التاريخ المغاربي حسب الخطاطة الخلدونية المشهورة: عصبيةــ دولةــ عصبية. إذ تهذّب العمران الوحشي لقبائل الداخل التونسي الأمر الذي مكّن مؤسس سلالة البايات الحاكمة الحسين بن علي مبكرا من بسط نوع من الهيمنة الناعمة على المجتمع الأهلي، كما عزّز مشروعيته السياسية دينيا بتبنّي المالكية فقها للمجتمع والدولة بديلا عن الفقه الحنفي السائد وقت ذاك فيما كان يعرف بالإيالات التابعة للإمبراطورية العثمانية.

كما أن نظام الحماية الفرنسي، الصيغة المخفّفة التي اتخدها الاستعمار في تونس دون جارتيها الجزائر وليبيا، ساهم هو الآخر في الإبقاء على الهياكل الرمزية للأسس المحلّية للدولنة، بل أتاح هامشا لمؤسسات التديّن والتعليم، والنخب الاجتماعية التي تدور في فلكهما لأن تؤطر، لامحالة، الجماهير القابعة والمستسلمة لقدر القابلية للاستعمار. كل هذه المعطيات التاريخية، صاغت وطنية تونسية مهّدت لقاطرة الدولنة الاستقلالية لأن تسير على سكتين: سكّة السياسة التي صيغت في الحزب الدستوري الذي صيّره الحبيب بورقيبة فما بعد أوحدا، مستوعبا فيه أغلب أطياف المجتمع وفعالياته، وسكة النقابية التي قامت أساسا على طبقة شغيلة صلَّبت عودها الصناعة المنجمية التي استحدثها الاستعمار الفرنسي وأقامها على معدن الفوسفات، وبالتوازي معها عمالة فلاحية استحدتثها زراعة معصرنة ارتبطت تصديريا بالمركز الاحتكاري الاستعماري.

نظام الحماية الفرنسي ساهم في الإبقاء على الهياكل الرمزية للأسس المحلّية للدولنة

إلا أن مايمكن تسميته بالشخصنة البورقيبية التي تماهى بها الحزب الاشتراكي الدستوري الواحد مثّلت توّغلا عميقا في دواليب الدولة التونسية الموروثة، وهو ما أدّى إلى دولنة كليانية مطلقة للمجتمع، عكست شخصية بورقيبة المنفصمة تجاه عملية التحديث التي تبنّاها عفويا في شئون الثقافة والمجتمع، وخانها متعمّدا في المجال السياسي، حيث لم تعدُ تحديثيته سوى إجراءات بروتوكولية شكلية تمثّلت في وضع دستور ومجموعة من النصوص القانونية المكمّلة مثل مجلّة الصحافة أو المجلّة الانتخابية. ولكن شخصنة بورقيبة حوّلت بآليات متطرّفة مؤسسات الدولة إلى أشكال كارتونية فارغة المضمون.

فرئاسة الحكومة لم تعدُ أن تكون ديوانا منفذّا لتوّجهات الرئيس، وفي ما بعد لتوجيهاته، في مجال السياسة والاقتصاد التي اعتمدت المبدأ النظري(التجربة والخطأ) الذي ساد تجارب الاستقلال العالم ثالثي، كما أن البرلمان الأحادي اللون لم يكن إلا مجرّد غرفة لإعتماد القوانين التي تصاغ حسب المؤثرات المهيمنة على مزاج المجاهد الأكبر، وفصل السلطات صار مبدأ شكليا فالسلطة القضائية اقتسمت في كثير من الأحيان مع الأجهزة الأمنية مهمّة اجتثاث المعارضات، بل تجفيف منابعها فيما بعد، كما تبع ذلك تحويل مؤسسات الدولة إلى إقطاعات خاصّة تملّكتها الجماعات الموالية والمتنفّذة دون رقابة أو محاسبة. المؤسسة الأمنية التي استلمت المشروع الدولني البورقيبي في 7 نوفمبر 1987، دفعت بمأزقه الذي انعكس في السياسة والاقتصاد والمجتمع خطوات متقدمّة تجلّت في تغوّل الأمن على السياسة بتشويه مضمونها، وتمدد بنية الفساد في أوصال الدولة والمجتمع. التيّار الاجتماعي الوحيد الذي صمد ضد هذا الخراب، هو مخرجات مؤسسة التعليم والتثقيف التي رسخّت أسسها في الوجدان التونسي التنويرية البورقيبة، بكل مفارقات مشروعها العلماني الدولني.

فهل ترسم انتخابات تونس القادمة ملامح جديدة لجمهورية ليبرالية ثانية تقطع مع صورة مومياء الدولنة البورقيبية وتداعياتها؟ هذا ماننتظره.