Atwasat

القذافي ويهود ليبيا

سالم أبوظهير الثلاثاء 28 أكتوبر 2014, 11:15 صباحا
سالم أبوظهير

بعد أن مات معمر القذافي اختلف الليبيون على حبه وكرهه كما لم يختلفوا من قبل، ليكون هو سبب البلاء لليبيا حيًّا وميتًا، رغم أنَّ كارهيه ومحبيه يعيشون في نفس المكان، وأحيانًا هم من عائلة واحدة.. فلماذا يحبه البعض رغم موته، ويكرهه البعض الآخر حيًّا وميتًا؟!

ماذا فعل القذافي لبعض الليبيين حتى يحبوه لدرجة أن يموتوا فداءً له؟ ويسموه بعد موته بـ«القائد الشهيد»، وماذا فعل بالبعض الآخر منهم؟ حتى لم يترددوا في جره والتمثيل بجثته وعرضها عارية أمام العالم كله ويسموه بعد موته بـ«المقبور والمصهور والمردوم»؟!

تهتك نسيج ليبيا الاجتماعي، بعد أن كان الليبيون ولسنين خلت يتصفون بعلاقاتهم الإنسانية المتينة التي ضمنت التوازن بينهم وأنتجت بشكل طبيعي احترامًا متبادلاً بينهم وخلقت منهم ما يشبه المجتمع المنغلق الذي يتكاتف أفراده فيما بينهم ويجدون صعوبة في تقبل الآخر البعيد عنهم، ونما في حضن هذا المجتمع المنغلق البسيط نسيج اجتماعي متماسك قوي أذهل كل المجتمعات المجاورة، فاشتهروا بطيبتهم المبالغ فيها، وبتسامحهم، وحبهم وتسابقهم للمصالحة بين المتخاصمين، وإغاثة الملهوف، وحرصهم على فعل الخير بشكل عام . هذا ما كانت عليه البلاد الليبية منذ سنين طويلة خلت وبقي الأمر هكذا حتى مات معمر القذافي، الذي يبدو أنَّه كان يخطط لحدوث عكس ذلك بعد أن يموت فلازالت البلاد تحترق كما وعد، وغادرت الابتسامات الشفاه لأجل غير معلوم.. فلماذا يحبه البعض رغم موته، ويكرهه البعض الآخر حيًّا وميتًا. ومن أهم ما اختلف حوله الليبيون في القذافي وتباينت آراؤهم حوله هو حقيقة نسبه وعلاقاته باليهود.

أنا وبشكل شخصي أشكك كثيرًا في صدق ما تداولته بعض وسائل الإعلام العربية والغربية حول القذافي ونسبه اليهودي، وكيف لاقى هذا استحسانًا وترحيبًا وترويجًا من معارضي القذافي سواء من الليبيين أو غير الليبيين، رغم أنَّه ولحد الآن لم يثبت بشكل علمي وقطعي صحة هذا النسب المزعوم، لذلك لا يعدو الأمرإلا كونه سلاحًا استخدمه أعداؤه ضمن الحرب عليه قبل أن يموت وحتى بعد موته، ولكن الثابت عندي أنَّ معمر القذافي وبعض أبنائه، كانوا أصدقاء مخلصين لليهود، بل تعدى ما بينهم إلى أكثر من علاقة صداقة وفي هذا المقال أسوق الدلائل على ذلك .

بدأ تقرُّب معمر القذافي من اليهود وتودده إليهم منذ الحادي عشر من شهر يونيو العام 1972 م حين تلقى الكاتب اليهودي المقيم في أميركا ألفرد ليلينتال والمعروف باهتمامه بمتابعة القضايا المتعلقة بالتعويضات لليهود دعوة رسمية لزيارة ليبيا وصلته من مجلس قيادة الثورة، ليصل طرابلس بعد خمسة أيام، ويستقبَل بشكل رسمي من قبل أجهزة الخارجية والمراسم، ويلتقي خلال زيارته بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة وعلى رأسهم بالطبع معمر القذافي، بعدها بوقت قصير، أثناء حديثه مع صحيفة اللومند الفرنسية صرَّح القذافي قائلاً: «إنّ اليهود العرب أولاد عمّـنا، عشنا معهم وعاشوا معنا في سلام قرونًا طويلة» ،رغم تصريحات القذافي المتكررة والعلنية ضد إسرائيل، وموقفه من القضية الفلسطينية ودعمه اللامحدود لها بالمال والسلاح والرجال.

في أحد أيام صيف 1980 تفاجأ الليبيون بأوامر معمر الصادرة بخصوص هدم ضريح سيدي حمودة الواقع وسط مدينة طرابلس، ورغم علمه بمدى تعلق أهالي المدينة بهذا المسجد، ومحاولتهم الحيلولة دون تنفيذ القرار، تم هدم المسجد وتحوَّل من مَعْلم مهم من مَعَالِم المدينة إلى موقف للسيارات!

ويعرف الليبيون، وخاصة أهالي مدينة طرابلس جيدًا، أنَّ اليهود هم مَن قتل سيدي حمودة وذلك بسبب تحريضه لأهالي المدينة المستمر ضد اليهود المقيمين في طرابلس، وتحذيره المتكرر من سياستهم، الامر الذي أضر بتجارتهم وأعمالهم فقرروا قتله، وفسر الكثيرون أن هدم الضريح ربما كان رسالة من معمر لليهود يتقرب بها إليهم، مفادها بأنَّه عاقب من أساء إليهم في حياته حتى وهو ميت !!

وصلت هذه الرسالة لليهود، والتي يبدو أن كانت واضحة ولا لبس فيها خاصة لليهود الليبيين الذين بادروا فورًا بإنشاء تنظيم منظم جدًّا سموه «من أجل يهود ليبيا» أهم أهداف هذا التنظيم كان العمل بشكل منظم وسريع لفتح قنوات اتصال مباشرة أو عبر قنوات اتصال وسيطة بمعمر القذافي، وكسب وده وتعاطفه مع اليهود في كل مكان واليهود الليبيين بشكل أخص، بدأت أولى المحاولات بوصول شريط فيديو مصور إلى خيمة القذافي عبر وسيط مقرب جدًّا منه، الشريط المصور أعد بعناية فائقة، من قبل مختصين يعرفون جيدًا كيف يفكر القذافي، أو ما الذي يستهويه على أقل تقدير، وبشكل احترافي أبرز الشريط مشاهد لبعض الليبيين اليهود الذين يعيشون في حيفا ويهودا وهم يتجولون بملابسهم الليبية الخالصة، كما وضح جليًا من الاحتفالات والعادات والتقاليد الليبية، ولم يغفل مصور الشريط تصوير نساء ورجال فتيان وفتيات جميلات، وهم يتغزلون بالقذافي ويبثونه شوقهم للقائه، ويتوسلون إليه إتاحة الفرصة لهم وتمكينهم من ذلك، وأنهم لا يريدون تعويضات، ولا أموالاً، إنهم فقط يريدون زيارته عن قرب وزيارة بلدهم ليبيا التي عاش وكبر فيها آباؤهم وأجدادهم، كانت الرسالة ذكية، ولكن القذافي أيضًا كان على قدر ربما يفوقهم في الذكاء تطلب الأمر سنوات ليتحقق لهم بعض ما طلبوه، ولكنه وفي انتظار ذلك أبقى على حبل الود والتواصل معهم قائمًا ولم يقطعه.

لم يترك القذافي فرصة بعد ذلك إلا ولمح أو صرَّح بحق اليهود في التعويض، ولكنه استمر في التسويف والمماطلة بخصوص مقابلتهم واستقبالهم في الخيمة كما يتوقون، وكسبًا للوقت بادر تنظيم «من أجل يهود ليبيا»، بالعمل على المحافظة على كل ما يملكونه من تراث ليبي أصيل يجسد هويتهم الضائعة، ويحث حكومات إسرائيل المتعاقبة على الاهتمام بأمرهم وقضيتهم ومناشدتها في كل مرة بضرورة مخاطبة المسؤولين في ليبيا بحقهم في العودة، وأقاموا متحفًا ليبيًا خاصًا بهم يشرح تاريخهم ويعرضون فيه صورهم وهم داخل ليبيا قبل طردهم منها، كما شاركوا وبقوة في كل الفعاليات والمناشط داخل ما يُعرف بإسرائيل وخارجها. أصدروا مجلة ناطقة باسمهم تُوزَّع داخل ما يعرف بإسرائيل وفي معظم أنحاء العالم، إلى جانب موقع إلكتروني على شبكة الإنترنت يعرضون ويعرفون بحقوقهم وعاداتهم وتقاليدهم كالجالية الليبية في ما يسمى بدولة إسرائيل. تم رفعوا سقف مطالبهم إلى حقهم كيهود ليبيين في الحصول على تعويضات مناسبة عن الممتلكات التي تركوها خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي في طرابلس وعدد من المدن الليبية، مستفيدين من الوثائق الرسمية والمستندات التي تؤكد وتدعم مطالبهم، ورغم ما هو معروف عند اليهود من حبهم الشديد للمال، إلا أنَّهم هذه المرة ومن خلال المبلغ الذي طلبوه يتبين أنَّ هدفهم الحقيقي هو الرجوع لليبيا وربما المكوث فيها، خاصة إذا علمنا أنَّ عددهم حوالى 120 ألفًا، وأن إجمالي ما طلبوه من تعويضات يقدَّر بنحو 600 مليون دولار!!

تضاعفت أمال اليهود في العودة إلى ليبيا بعد نجاح جهود اللوبي اليهودي في إسرائيل في الوصول لخيمة القذافي وزيارة اليهودي رفائيل فلاح، رئيس رابطة اليهود الليبيين في إيطاليا لليبيا، وترتيبه لزيارة بعض العرب الليبيين للقدس العام 1993م بالتنسيق مع رجل الأعمال اليهودي الليبي، يعقوب نمرودي، وبعدها في العام 2002 م، تمكَّن اليهودي داوود أو ديفيد الجربي من مقابلة القذافي أيضًا، ثم تأكدت العلاقة بعد أن توطدت العلاقة الغرامية بين سيف القذافي والممثلة الصهيونية أورلي وايزمان وتصريحات سيف القذافي خلال لقائه مسؤولين إسرائيليين على مستوى عالٍ في اليونان بأنَّ ليبيا تركت الصراع العربي- الإسرائيلي جانبا لأنَّها أصبحت بلدًا أفريقيًّا على حد زعمه، ولمح بقوة إلى إمكانية إقامة علاقات اقتصادية متينة بين ليبيا وإسرائيل، رافق هذه التصريحات النارية لسيف القذافي ما بثته مجلة «أول فوايسيس» من زيارة الأخير السرية إلى إسرائيل وتعهده بإقامة علاقات سياسية واقتصادية وتعويض اليهود إذا تمكنوا من مساعدته وتقديم الدعم الكامل له للبقاء في السلطة .

في أغسطس 2010 قام عمر الكدي الصحفي بالقسم العربي في إذاعة هولندا العالمية بمفاجأة الليبيين والعالم عبر مقابلة نقلها عبر الأثير مع رفائيل لوزون، رئيس الجالية اليهودية الليبية في بريطانيا تحدَّث فيها الأخير هاتفيًّا بأريحية تامة من غرفة بالفندق الكبير في قلب طرابلس التي غادرها حزينًا، ولكن من خلال تلك المقابلة الإذاعية الشهيرة عرف الليبيون ومَن يهتم لأمرهم أنَّ لوزون محاطٌ بأصدقائه الليبيين الذين تعالت ضحكاتهم، معبِّـرين عن فرحهم بوجوده بينهم وهو يتحدث للكدي قائلاً: «أشكر كل من دوردة والشحومي وأيضًا الأصدقاء الذين يعملون مع سيف الإسلام، والذين سهلوا تحقيق هذه الزيارة».

بعدها بقليل اندلعت ثورات الربيع العربي في المنطقة، وأشارت بعض التقارير الصحفية إلى أنَّ إسرائيل تمكَّنت بالفعل خلال وجود عملائها في تشاد من تزويد سيف الإسلام القذافي بالجنود المرتزقة، وبعض الدعم اللوجستي، ولكن الوقت كان قد فات بعد تدخل قوات حلف الناتو، فتوقفت إسرائيل عن دعمها للقذافي وتخلت عنه .

هذا ما فعله يهود ليبيا عندما كان القذافي يتعهد زرعهم ويتكفل به وهو حي يرزق.. فهل سيعودون ليجنون حصاد ما زرعوه وحبيبهم الذي يحبونه انتهى حكمه ومات؟!