Atwasat

مصائر الكتابة: منصور أبوشناف .. السياسة على الخشبة

نورالدين خليفة النمر الأحد 10 ديسمبر 2017, 09:30 صباحا
نورالدين خليفة النمر

ليس شرطاَ أن يكون الكاتب المبدع قارئاً نهماً أو، باستعارة ما، "فأر كُتب"حتى يكتب. والفيلسوف نيتشة وصف القراءة صباحاً بالعمل الشرير حيث يكون ذهن الكاتب منفتحاً لصفاء الإبداع . لكني أنا و الكاتب المبدع ، منصور أبوشناف الذي التقيته في جامعة بنغازي عام 1974 نختلف مع نيتشة المعادي لقراءة الكُتب المسمّمة للإبداع، فأنا وإياه دون رفاق جيلنا السبعيني وحتى الستيني من كنا نلتهم الكتب التهاماً.

وبكثافة القراءة أعلن منصور أبوشناف عن نفسه مبكراً في سوق الأفكار الليبية عبر الكتابة للمسرح من ثانوية مصراتة، بنفس إعلان الرأي الذي كتبه المصراتي عبد الله القويري العائد عام 1957 من مهجره المصري معبراً عن قدر جيلنا المولود منتصف الخمسينيات بمسرحيته الأولى "عمر المختار"، التي فسّرتها المؤسسة الملكية المحافظة موقفاً يساريا معارضاً. بينما أبوشناف الذي تعلّم كتابة الرأي حواراً على خشبة المسرح من جورج برنارد شو، وسارتر، وكامو، وبرشت كتب حواريات موضوعها طاغية روما نيرون في نشرية يناير التي أصدرها الطلبة الجامعيون المتمرّدون على السلطة النقابية والعسكريتاريا في بنغازي يناير 1976 ومسرحيته "تداخل الحكايات عند غياب الراوي" أُوّلت بقلم العسكريتاريا الدكتاتورية، لتصبح دليل تجريمه فيلصق مغزاها بمحاولة الانقلاب العسكري من قبل الضباط الأحرار أغسطس 1975 بعنوان مسرحيته "عندما تحكم الجرذان" التي حازت الجائزة الأولى في مسابقة مواهب الكتابة بالثانويات عام 1973 كونها هجاءً في رموز الدولة الملكية التي أسقطها العسكر عام 1969. ولكن النظام الثوري أودى بأبوشناف إلى السجن السياسي من 1976 إلى 1988مُكافئه على ما كتبه من الغزير الذي قرأه. أما أنا الذي لم يقطعني السجن عن القراءة فتقطّعت بي السُبل وفي يديَّ دائماً كتاب أقرأ فيه سادراً في منافي الوطن والعالم حيث أعيش اليوم ومنذ أزيد من ربع قرن في ألمانيا النقطة المُبهرة فيه ولكني أقبع في قبو دستويفسكي المُعتم عاطلاً متبطّلاً منفياً من جديد، مشمولاً بقانون العزل السياسي الذي أصدره عام 2012 الفبرايريون الثوّار، متأسلمين وعلمانيين، ضد غرمائهم السياسيين الحقيقيين والوهميين من وصفوهم بفلول الدكتاتور ونظامه من سبتمبر 1969 والمنهار في نوفمبر 2011.

تصاعد عنف الخريف الثوري 2014 فيما أطلق عليه بفجر ليبيا وتداعياته الاحترابية اضطرّ الكاتب المناضل منصور أبو شناف تحوّطاً كأقرانه الحقيقيين من كُتاب الداخل الليبي من أن يحيق به عسف الدكتاتورية الليبية المتجدّد في الحقبة الثورية الجديدة أن تكون إطلالاته عبر كُوى صحافة المنفى متفاوتة ومتباعدة، ورغم ذلك غالباً ماكانت مقالته مجلبة لسعادتي. فمنصور زميل تمهيدية كلية الآداب 74 ـ 1975، وزميل الفلسفة حتى أبريل 1976 وحدثه المشئوم الذي أودى به كاتباً ومسرحيا واعداً في غيابات السجن لعقد من الزمان. وعدا كتابته الممسرحة لتراجيديا رموز المعارضة السياسية في الحقبة الدكتاتورية الليبية كفقيد الحركة الوطنية الديمقراطية الشهيد "عمر دبّوب"، كرّس قلمه النابه للكتابة في القامات الإنسانية والأدبية التي تفخر بها الحركة الثقافية الليبية وأعني بذلك مقاله في الكاتب الكبير يوسف الشريف. فمقالة منصور فيهم لايكتبها غيره، فهي مميّزة، لتميّزه بتجربة حياتية مختلفة عن كُتّاب جيله السبعيني الذين أطلقتهم المدينتان طرابلس أو بنغازي. فمنصور، عكسهم، انطلق مبكراً بغرض التحصيل المدرسي من بلدته الملتبسة بغموض الموقف إزاء التاريخ الليبي وحوليات خرابه بأن تسير دائماَ في الطريق المعاكس له "بني وليد" إلى الحاضرة الريفية غريمتها الروحية "مصراتة" التي عادة ما تميز أبناؤها أدبياً وفكرياً خارجها في بنغازي وطرابلس، لكن مصراتة تميّزت وقتها بحركة مسرحية مميّزة كانت المختبر الأول للفتى الورفلي الموهوب ومن على خشبتها ممثلاً وكاتباً سيتصدرّ المشهد ومن الثانوية مباشرة إلى بنغازي حيث كان واسطة عقد طلبة مصراتة المتميزين عدداً وكيفاً نباهة وجدية ومواهبَ. والهوس بقراءة الكتب هو ماجمعني بأبوشناف في جلسات نقاش طويلة في حجرته ببيتنا الطلابي في الفويهات ببنغازي مع الشاي الأحمر بطعم الماء المالح والخبز من بقايا الوجبات المجانية. ومالفتني فيه درايته المبكرة بالأدب العالمي رواية ومسرحاً فعدا أوزبورن الذي استشهد به في مقاله عن الكاتب يوسف الشريف يبرز همنغواي، شتاينبك، آرتر ميلر، سارتر، كامو، ج.ب.شو، وديكنز، وحتى برتولد برشت المسكين الذي وُلد في زمن الحرب فرأى الناس يحاربون فحارب معهم. ومنصور مثله دخل الحرب الليبية مبكراً من وراء كواليس مسرح مصراتة فكتب السياسة في دراما التغريب حواراً على الخشبة كما كتبها برشت في الأم شجاعة من برلين وابنها الملاك الطيّب الذي سقط من السماء في سيتشوان بالصين،
سنضرب صفحاً عن كل مايُشاع بان أبناء عمومة الكاتب منصور أبوشناف المتنفذين قد أمّنوا له ثراءً بتملّك دارة ومزارع وتسهيلات قروض تجارة من النظام الدكتاتوري الذي سجنه، ونقول الذي عرفناه بأن الكتابة بعد خروجه من السجن كانت أحد مصادر رزقه إلى جانب تجارة متعثرة، ودروس تعليمية تعاونية بمكافآت مقطوعة، فمنصور، وهذا من حقه وبسبب ظرفه، يتوخى من كتابته مقابلاً نقدياً، ولكن ظروف ليبيا العمياء وبالذات بعد ثورة 17 فبراير أبعدت بعكازها الثقافة إلى حفرة عميقة من حفر الفوضى، فما كان علينا نحن الكُتاب المنهمين بليبيا إلا الكتابة بالمجان وببلاش، في المواقع الصحفية الليبية المغتربة عن ليبيا والمُعتاشة على صدقات ذوي الإحسان والمعروف لوجه الخير والله في بلاد النفط والخليج الذي صاح به شاعر العراق بدر شاكر السيّاب.. ياخليج ياواهب اللؤلؤ والمحار والردى.