Atwasat

مصائر الكتابة:جمعة أبوكليب.. فطرة الدُعابة

نورالدين خليفة النمر الأحد 03 ديسمبر 2017, 10:07 صباحا
نورالدين خليفة النمر




كنت دائماً ما أتساءل بيني وبين نفسي عن الحافز الذي يمتلكه الكاتب عمر الككلي ليغيّر به مآل الآخر الذي يصير صديقه فتربطه به علاقة مودة عميقة وألفة مريحة، تكون سببا في متاعبه وتغيير مجرى حياته فيما بعد في انعطافة حادة سلبية غالباَ ما انتهت بهما بما اعتادته الدكتاتورية من طرائق في إظهار سلطتها إلى الاعتقال قبله أومعه. ماهية التأثير هذه يمكن مقاربتها بما ادّعاه السوفسطائي "مينون" وصفاً لمحاوره الفيلسوف «سقراط»، وصدّق عليه الثاني بالسمكة الرّعاشة التي تشلّ نفسها عندما تشّل غيرها. حيث تُبّث عدوى الثقافة سريان حيرة فيكون الباث كالمبثوت به حائراً للسبب ذاته.


تأثير الحيرة يسري في الآخر انهماماً بعالم الكتابة التي تُكلفه سجناً كصديقَيْ عمر الككلي الحميمين الكاتب القاصّ جمعة ابوكليب والشاعر علي الرحيبي أو الاعتقال بسبب صداقته به دون إقحامه في الكتابة فيُلحق به في سجونه كـ: عبد الله صالح العوامي بسجن الجديدة فيمكث فيه سنة وخمسة أشهر ليخرج بعدها ، بالبراءة في حقبة الدكتاتورية حيث تكون التهمة والبراءة وجهين لعملة واحدة.

سنكتفي بذكر الكُتاب ونترك الآخرين الذين لم يمارسوا حرفة الكتابة وهم كثر تعرّفت تقريباً على جُلِّهم بحكم ارتباطنا، عمر الككلي وأنا، بصداقة الاهتمامات الفكرية والزمالة في قسم الفلسفة بكلية آداب
بنغازي 1974 ـ 1978، أو التقيت بهم في العطل الصيفية التي كنا نقضّي مساءاتها الحميمة في «المربوعة» الشهيرة منتدانا الثقافي ببيتهم العائلي في طرابلس من صيف 1975 إلى خريف 1978 عام اعتقال عمر الككلي ورفاقه الكُتاب بتهمة سياسية ملفّقة لإعاقة حضورهم في الساحة الثقافية الليبية التي أرادت السلطة القامعة إزاحتهم منها بمناسبة تأهيل حوارييي الدكتاتور من أعضاء اللجان الثورية للدخول بلا مسوّغات للكتابة في عالم الثقافة الليبية المُعاق سلفاً والمُنتهك بما سمّي بالثورة الثقافية في عام 1973.

ومن الكُتّاب سنكتب عن الكاتب القاصّ جمعة ابوكليب، الذي التقاه عمر الككلي بمحض الصدفة في مكتبة دار الشعب لصاحبها الكاتب الوطني الرائد علي مصطفي المصراتي، في شارع الاستقلال بطرابلس سنة 1973. نترك سرد الككلي يوّصف هذا اللقاء الذي سيصير الصداقة الفارقة إلى اليوم: «كنت في المكتبة وطلب مني مصطفي (ابن الكاتب المصراتي) البقاء فيها بدلا منه لأنه سيتغيب بضع دقائق. فدخل شاب طويل نحيل ذو بشرة صافية عليها التماعات بلل (لعله كان قادما من مسجد قريب) وكان يرتدي ملابس خفيفة وشبشبا واشتري ترجمة عربية لرواية ديفيد كوبرفيلد، للروائي تشارلز ديكنز، لم أكن أعرف السعر فقدرته تقديرا، وقبل أن أرد له الباقي دخل مصطفي فطلبت منه تولي العملية. كان مصطفي من الدماثة بحيث سألني عن المبلغ الذي ذكرته أنا ليتعامل علي أساسه، فرفضت أنا وقلت له: لقد اشتري رواية ديفيد كوبرفيلد. فضحك جمعة الذي كان الكتاب بيده وقال لي: أنت تتذكر عنوانها، وأنا الذي اشتريتها نسيته!.».

ومن لفتة دُعابة بدأت صداقة. بعد ذلك بأشهر عام 1973 يلتقيان في كلية التربية بجامعة طرابلس، التحق الككلي بقسم الاجتماع والفلسفة والتحق ابوكليب بقسم اللغة الإنكليزية ليصير زميله مفتاح البكوش الذي أخدته دروب الاغتراب حتى اليوم مترجماً في مجال الخدمات الصحية في ألمانيا ولم يصر كاتباً ومن سيصيران الكاتبين رمضان سليم ومحمد الزنتاني الثلاثة جلبتْهم إلى صداقتي، وكنت في الثانية ثانوي أدبي وهم في الثالثة، محاضرتي في مدرسة علي النجار بطرابلس حول «الأدب والالتزام في الرؤية السارترية».

حس الدعابة المديني فطرة جمعة ابوكليب، بل لعبته في مسقط رأسه «وسعاية بوراس»


مفتاح البكوش سيعرّفه جمعة ابوكليب على صديقه الجديد عمر الككلي والبكوش سيجلب معه يوما في صيف عام 1974 أو خريفه الككلي وفي صحبته من سيصير بعدها طبيباً وشاعراً عاشور الطويبي فنلتقي مساء خريف مطير في منتدانا بمقهى علاء الدين لصاحبها الإذاعي المرموق محمد السفاقسي بشارع الاستقلال حيث مازال في طرابلس حتى ذاك الخريف الماطر للأدب مقاهٍ كزرياب التي يلتقي فيهارضوان ابوشويشة وخليفة حسين مصطفى، وأحمد إبراهيم الفقيه وآخرون. وسيتأخر لقائي الأول بجمعة ابوكليب والشاعر محمّد الفقيه صالح حتى عام 1975 في مربوعة عمر الككلي وقد عدنا معاً في عطلة الصيف.

حس الدعابة المديني فطرة جمعة ابوكليب، بل لعبته في مسقط رأسه «وسعاية بوراس» المنطرحة فضاءً في المدينة القديمة التي كُلها أزقة ضيقة، وهو فارق الشخصية الشاسع الذي سيميّزه عن صديقه عمر الككلي رغم حميمية الصداقة، ووثاق محنة السجن الذي ربطهما معاً في عنبر واحد في السجون التي مُرّرا بها من الجدّيدة إلى بورتابينيتو ( الحصان الأسود)، إلى ابوسليم ،حتى أصبح بهما السجن السجان بالإفراج بعد 10 سنوات عام 1988، ليتنكّب جمعة ابوكليب درب المنفى مغترباً ومنفكّاً عن كل العلائق عدا رابط التأثر والتأثير الأدبي ـ حيث ظل يخاطب الككلي بأستاذه كما في أمسية قراءة لحكاياته في البرّ الأنكليزي كنت حاضرها بطرابلس صيف عام 2012.

يمتلك جمعة ابوكليب أرواحاً عديدة منها روح الوصّاف الماهر، النابه لتفاصيل غزارة الخارج، طبعاً خارج السجن المكان المغلق فقير المفردات، بل عديمها الذي كتب فيه قصة واحدة* فيمكننا وصف كتابته بأنها ابتعاد عن السجن، أو بالأحرى نفيٌه من ذاكرته.. أذكر انني أخدته بسيارتي عام 2013 يوم إشهار منظمة سجناء الرأي إلى سجن أبوسليم، مستعيناً بي لأنه مسح من ذاكرته إطلاقاً الطريق المؤدي إليه، وقال لي أنه لم يفكر يوما أنه سيزوره وأنه تناساه بالكامل حتى أنه لايأتيه في أحلامه، وبالتالي لايشغل كتابته عكس صديقه رفيق السجن الكاتب عمر الككلي الذي اخترع لوناً جديداً في فن الكتابه أسماه "السجنيات"** ربما ليَسجن روح كتابته فيه بينما ابوكليب يركض خارج سجن عمره في لندن المدينة التي بحجم العالم من شارع إلى شارع ومن مقهى إلى مقهى ومن حافلة إلى أخرى ومن مترو أنفاق إلى
الشارع المفتوح على حديقة، ومن عربة قطار رُكاب إلى أخرى حيث للزمن كما قال صديقه الشاعر الغائب أخيراً بالموت محمد الفقيه صالح طعم المحطات.

اليوم في خريف عام 2017 الكاتب جمعة أبوكليب العائد للكتابة بعد انقطاع يكتب مخاطباً أناه الآخر في المدينة محطة الوطن المقفرة من الرفاق "أنتَ، الآن، وحيدٌ، في طرابلس، تسير على قدمين واهنتين متخفياً في فداحة صمتك، عيناك نافذتان مفتوحتان على ما ترسّب في قاع ذاكرتك من ذكريات، وقلبك مسكون بـحيرة العائد من منفاه إلى منفاه، تتمنى أن تمتد نحوك فجأة يدٌ صديقةٌ وتقول لك أهلاً وتدعوك ببهجة لاحتساء فنجان قهوة منكّه بالهيل والذكريات والضحكات، أو تنبثق أمامك، فجأة، امرأةٌ، من لحم ودم وأنوثة وتناديك باسمك في مدينة لم يعد يعرفك فيها أحد“.

* الحقيقة أن جمعة بوكليب كتب عدة قصص في فترة السجن. لكن لم تقيض النجاة إلا لواحدة. (المحرر).

** الواقع أن المصطلح موجود من قبل. (المحرر).