Atwasat

سلمان العبيدي... الطفل الضحية

إدريس القائد الإثنين 05 يونيو 2017, 10:58 صباحا
إدريس القائد

تابعت حركة الفكر الإسلامي منذ الصبا، واكتشفت بعد مضي العمر أنه ليس بفكر ولا بإسلاميا. البدايات كانت مع عديد من أصدقاء الصبا لا تتعدى قراءة بعض الكتب والرسائل تحولت الى رابطة إسلامية نجمع المال وننفقه على الفقراء. من يعيش من مجموعاتنا في ليبيا ترك الفكر الإسلامي ومن الذين يعيشون بالخارج مَن استمر إلى حد التطرف.

لكن هو الفكر الإسلامي؟.
لعل أكثر من كتب في ذلك و يوصفون بالمفكرين الإسلاميين هم سيد قطب وأبو الأعلى المودودي.. وبينهما الكثير من الذين ينشرون كتبا ليست إلا إعادة صياغة لقطب وللمودودي، وفي واقع الأمر قطب نفسه كان يعيد صياغة ما كتبه المودودي، لكن سيد قطب يملك حاسة الشعر ومفاتيح اللغة وخيال الروائي فكانت كتبه الأكثر تأثيرا وانتشارا.

لعل أكثر من كتب في ذلك و يوصفون بالمفكرين الإسلاميين هم سيد قطب وأبو الأعلى المودودي

كانت قضية المودودي واضحة جلية، الوصول إلى فصل المسلمين عن الهند. كانت دعوته سياسية ومطالبته بإنشاء دولة خاصة بالمسلمين فكان لابد أن تعتمد أفكاره على إذكاء الشعور الديني لدى مسلمي الهند. فتحول الإسلام الدين إلى إسلام الحزب الذي ينادي بإنشاء دولة باكستان. فتغيرت مفاهيم ومصطلحات الإسلام إلى معانٍ جديدة. تحولت الصلاة والصوم إلى تدريبات للصف الواحد وتحمل المشقة من أجل الجهاد. أما المصطلحات فهذه ما بنى سيد قطب عليها فكره ودعوته والمستخلصة من كتاب "المصطلحات الأربعة" للمودودي. وكل الكتب التي جاءت بعد ذلك ليست إلا التأكيد على معنى لن يصلح الله هذه الأمة إلا بما صلحت به عند بداية الإسلام.

لعل كتاب "معالم في الطريق" ليس فقط ملخصا للفكر القطبي والمودودي، ولكنه ملخص لتاريخ الإسلام السياسي. فالفكر القطبي انتشر بين العرب والفكر المودودي في الباكستان وأفغانستان.. من الفكر القطبي ولدت داعش ومن الفكر المودودي ولدت طالبان. المقهور دائما يبدأ بتحطيم الصورة الذهنية لقاهره. ولا شك أن الغرب يشكل قهرا حضاريا وفكريا للشعوب الفقيرة غير القادرة على الخروج من دائرة التخلف المتجددة عبر الأجيال.

لذا يبدأ قطب:
[ تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية... لا بسبب التهديد بالفناء المعلق على رأسها... فهذا عرض للمرض وليس هو المرض... ولكن بسبب إفلاسها في عالم "القيم" ]. ثم يقصف رأس المال المعرفي الذي بسببه تقدم الغرب أي الديمقراطية ذاتها: [ في العالم الغربي، الذي لم يعد لديه ما يعطيه للبشرية من "القيم"، بل الذي لم يعد لديه ما يقنع ضميره باستحقاقه للوجود، بعدما انتهت "الديمقراطية" فيه إلى ما يشبه الإفلاس ]

في سطور قليلة ينسف التاريخ البشري والحضارات المتعاقبة. عندما يقرأ صبي أو شاب صغير هذا الكلام وكانه آيات من كتاب مقدس، يتلوّن العالم الآخر بالسواد خالياً من القيم والاخلاق. ثم ماذا عن عالم هذا الشاب اليافع. بلده ومجتمعه وحاضره. هنا ينتشله سيد قطب من مجتمعه ووطنه ليتلو عليه آياته فيستدعي من تاريخ الأمة مصطلح الجاهلية !!! فيقول: [العالم يعيش اليوم (كله) في "جاهلية" من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها، جاهلية لا تخفف منها شيئا هذه التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الإبداع المادي الفائق!]

كان من الممكن أن يختفي فكر سيد قطب لكن ليس بعد أن نفذ فيه عبد الناصر حكم الإعدام 1966. وليس بعد هزيمة يونيو 1967. بعد الهزيمة صار "الغزو" تصوراً لكل الفكر والتراث الإنساني. انتشرت الجماعات الإسلامية و بدأت الحركة السلفية الوهابية خاصة في الدول التي هزمتها إسرائيل وتغولت في السبعينيات من القرن السابق.

سيعيش الشاب اليافعي الذي يقرأ سيد قطب وغيره في حيرة وقلق لكنه يملك الآن تفسيرا لهزيمة الذات المسلمة في كل مجالات الحياة

الدعوة إلى [الجماعة] صارت المرتكز الأساسي. الانتماء إلى أوطان مهزومة يشعر الشباب بالعجز والقهر والاشمئزاز. إذن لابد من انتماء جديد. يعطي نشوة الانتصار. و هنا يتلو سيد قطب في كتابه آية مهمة فيقول:
[إنه لا بد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق، تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعا، تمضي وهي تزاول نوعا من العزلة من جانب، ونوعا من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة].

سيعيش الشاب اليافعي الذي يقرأ سيد قطب وغيره في حيرة وقلق لكنه يملك الآن تفسيرا لهزيمة الذات المسلمة في كل مجالات الحياة. فهو الآن يرى العالم الخارجي شيطانا و يرى مجتمعه جاهليا ولابد له أن ينظم إلى جماعة!. وطالما وصف مجتمعه القريب بالجاهلية فلابد إذن من استدعاء "الجماعة الأولى" أي الصحابة. ويصفهم سيد قطب [بالجيل القرآني الفريد] وهنا تتحول كل الآيات القرآنية التي تخاطب كفار قريش مرتكز "الخطاب الإسلامي الجديد" ويصبح الصحابة أبطال الحاضر والقدوة والمثل البشري الأعلى.

لن تصف نفسك بأنك مصري أو أردني أو ليبي. فأنت الآن "مسلم جديد" وجنسيتك الإسلام. عندما يقرر سيد قطب بأن [جنسية المسلم عقيدته]. وتبرز كلمة "الجهاد" كغاية لا غاية بعدها وتطلق هذه الكلمة على كل مناحي الحياة.. ويصير ذلك الشاب اليافع متعاليا لأنه يملك الحقيقة كما وصفها قطب [هناك حقا واحدا لا يتعدد، وما عداه فهو الضلال وهناك دارا واحدة هي دار الإسلام وما عداها فهو دار حرب]. وستبقى دار الإسلام في مخيال الشباب دولة افتراضية لكنها تحكم كل فكره وتطلعاته.

يحدث كل هذا الفوران والغليان والإحساس بالدونية الحضارية في استبداد أنظمة الحكم واستمرار القمع واحتقار شعوبها وعجزها عن تحقيق تطلعات الشعوب وهزائمها المتكررة مع العدو الذي نعاديه عداوة مقدسة كحتمية تاريخية. فتزيد الشباب اليافع ضراوة في البحث عن مخرج ينقذه من قوقعة التخلف واضمحلال الوجود.

وأيضا تنتشر الجماعات بفضل أموال النفط السلفية وتزداد الأماكن المقدسة تقديساً يتجاوز العبادة وتصبح رمزاً وأيقونة كوكب الأرض وتظهر شخصيات أتيح لها مخاطبة الأمة بشكل يومي متكرر وأيضا بفضل أموال النفط تنتشر الفضائيات و يبرز الشيخ متولي الشعراوي ليحول أنظار الأجيال إلى الماضي الجميل ويبرز مصطفى محمود ليربط العلم بشرط الإيمان ويصبح نصر الدين الألباني البخاري الجديد. كل ذلك يجعل عامة الناس إما تتحصن بالتدين المفرط أو بالشعور بالذنب المزمن.

تتشكل الأسرة من تناقضات العصر ومن أوهام الماضي المجيد. ويتحول معظم الناس إلى ساخطين على الوجود نفسه أما الشباب فهو لازال ينمو فكريا في الشرنقة اليقينية الدينية ويصل إلى محو الذاكرة الإنسانية فيلغي روابط الدم والقربى والوطن والإنسانية. وهذا ما يعبر عنه الخطاب الديني بـ (استعلاء الإيمان).. و يترسخ في ذهن الفتية حالة من النرجسية تعوض كل النقائص. ويؤكد قطب ومصطفى محمود والشعراوي ومئات وعاظ الأمة الفاشلة [إن المؤمن هو الأعلى، الأعلى سندا ومصدرا. فما تكون الأرض كلها؟. وما يكون الناس؟. وما تكون القيم السائدة في الأرض؟. والاعتبارات الشائعة عند الناس؟. وهو من الله يتلقى، وإلى الله يرجع، وعلى منهجه يسير؟. وهو الأعلى إدراكا وتصورا لحقيقة الوجود].

وإذا كان الانتماء إلى الصحابة والسلف لا يشبع الشخصية النرجسية العاجزة عن تغيير الواقع فيقرر قطب ملكية واستحواذ المؤمن المسلم لكل الأنبياء فيقول: [والمؤمن ذو نسب عريق ضارب في شعاب الزمان إنه واحد من ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم׃ نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام. هذا الموكب الكريم الممتد في شعاب الزمان من قديم يواجه كما يتجلى في ظلال القرآن مواقف متشابهة وأزمات متشابهة وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكرّ الدهور وتغير الزمان وتعدد الأقوام يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى والاضطهاد والبغي والتهديد والتشريد] ويمضي ليجعل الفتيان مع الأنبياء في موكب واحد ويقول: [موقف واحد وتجربة واحدة وتهديد واحد ويقين واحد ووعد واحد للموكب الكريم... وعافية واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد والوعيد].

تنتشر الجماعات بفضل أموال النفط السلفية وتزداد الأماكن المقدسة تقديساً يتجاوز العبادة وتصبح رمزاً وأيقونة كوكب الأرض

إذن ها هي الشخصية تستكمل ملامحها. شخصية تتسم بالعزلة في شرنقة اليقين تكره العالم والجاهلية لكنها في قمة سامقة وهي تنسب نفسها إلى الأنبياء و الرسل...لكن!! تبقى في شرنقة ولا تنطلق ولا يبقى أمامها إلا الانفجار!. لأنها الشخصية الضحية. يعطيها التراث القديم كل حقوق البراءة في كونها "الضحية " صاحبة الحق المطلق. ويبرز مصطلح الفتنة. كل شئ يتحول إلى فتنة والفتنة امتحان والنجاح والنصر في أرفع صورة هو انتصار الروح على المادة، وانتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإيمان على الفتنة. هكذا تستكمل شخصية الإرهابي فدينه كما تعلمه من قطب والشعراوي يؤكد معنى تفاهة العيش. وتأكد من مفهوم الجهاد والفتنة والنصر وأن الله عندما خلق الإنسان خلقه من أجل الموت!. والموت يجب أن يكون طواعية وبرغبة.. فتتحول العقيدة إلى عقيدة الموت ويتحول الموت إلى انتصار.

الموت هو التحرر وهو المجد في السماوات كمجد المسيح وأصحاب الأخدود. بعد هذا الإعداد . التعالي والتضحية. يصبح الموت انتصارا للعقيدة لا يتحقق إلا بتقديم القربان يصفه قطب [إنه معنى كريم جداً، ومعنى كبير جداً، هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض، ربحوه وهم يجدون مس النار، فتحرق أجسادهم الفانية، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار!] ..
الصورة الآن واضحة، والدعوة واضحة، الدعوة لطلب الموت فتصبح العمليات الانتحارية غاية الغايات. أليست هي الانتصار النهائي؟

تبدو هذه التصورات حاضرة في بلداننا الإسلامية وخاصة العربية. لكنها تنامت في السنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق تاريخيا بالخارج. فدول أوروبا وأمريكيا وبتكوينها الديمقراطي العلماني الليبيرالي سمحت وتغاضيت بل لم تلاحظ هذا التنامي للجماعات المختلفة. حتى صار شائعاً في دول النفط إذا أردت أن يكون ابنك متديناً فأرسله إلى الغرب الكافر. فالتدين في الغربة الطويلة والارتباط بالجماعات الدينية ينشأ بدافع الحنين القهري إلى الوطن. الغربة للقادم من بلد ضعيف فقير إلى بلد غني متقدم هي لون من القهر لكون الغريب يتأثر ولا يؤثر فينكفئ على تراثه، والتدين في الغربة تدين مشوه والانتماء إلى جماعات دينية انتماء مستجير لا انتماء مستنير. هناك وجد الشاب اليافع فكر أبيه ووجدت جماعته فكر آبائهم متشكلاً من الهزيمة والنفط والقهر تغطيه نصوص مقدسة.
و فعل الشاب اليافع سلمان العبيدي فعلته وهو ليس إلا ضحية نتاج مسيرة طويلة للفكر الإسلامي... الذي لا هو فكر ولا هو إسلامي.