Atwasat

حرية الوصول إلى المعلومات

علي الدلالي السبت 20 مايو 2017, 05:36 مساء
علي الدلالي

المشهد الإعلامي في ليبيا ما إن تخلص من قبضة الرقابة الصارمة التي كان يفرضها نظام العقيد معمر القذافي على مدى أربعة عقود ونيف وتنفس بعضا من الهواء شبه النقي عام 2012 حتى سقط من جديد في فوضى عارمة من التلوث الفكري والأخلاقي ونهج يفتقر إلى أبسط القواعد المهنية، إلى درجة أن بعض المواقع والصحف والفضائيات "المؤدلجة" أو "المخولجة" باتت تشكل خطرا على المدنيين والسلم العام وتساهم من حيث تدري أو لا تدري في تفكيك النسيج الاجتماعي الليبي وإطالة عمر الصراع ومعاناة الليبيين البسطاء من خلال الترويج لخطاب الفتنة والتحريض على القتل والتهميش، وسكب الزيت على النار، وصناعة الطغاة، ورسم الخطوط الحمراء، وترسيم "التابوهات" بمعنى المحرمات، وتسويق المجرمين والمهربين وتجار البشر، وتبييض الفساد ونهب المال العام.

بعض المواقع والصحف والفضائيات "المؤدلجة" أو "المخولجة" باتت تشكل خطرا على المدنيين والسلم العام

ساعد الفضاء المغلق ما قبل العصر الرقمي النظام السابق منذ سبعينيات القرن الماضي وإلى غاية منتصف التسعينيات، مع بداية إشعاع ثورة المعلومات والاتصالات والسماوات المفتوحة، على التحكم في وسائل الإعلام وتوجيه دفتها رغم محاولة الليبيين اقتناء أجهزة ومعدات تمكنهم من التقاط بث إذاعة "لندن" لمتابعة ما يجري في بلادهم، ولجوء طيف آخر من الليبيين إلى تركيب هوائيات "الويزي" - إن لم تخني الذاكرة في التسمية- للحصول على بعض المحطات الإيطالية خاصة في فصل الصيف.

كان معمر القذافي وزير الإعلام الفعلي ولم يتخل عن هذا الدور على الإطلاق إلى حين مغادرته "باب العزيزية" ذات يوم من صيف 2011 ولكنه لم يثق يوما في الصحفيين الليبيين الذين دفع الكثير منهم ضريبة باهظة رغم التزامهم بـ "الخط العام".

من بين الأجهزة التي تتولى التحقيق مع "الصحفيين" الذين يُخطئون إدارة مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية

تكفي الإشارة هنا إلى أن من بين الأجهزة التي تتولى التحقيق مع "الصحفيين" الذين يُخطئون، عن غير قصد بكل تأكيد، إدارة مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية والهدف غير المعلن من ذلك إصابة عصفورين بحجر واحد، ترويع "الصحفيين" وإرهابهم نفسيا من خلال الإيحاء بأنهم فاقدو العقل والأهلية تحت تأثير المخدرات"مساطيل" والتلويح بأنهم قد يُتهمون بتعاطي المخدرات وترويجها، ناهيك عن إحالة عدد كبير من الزملاء إلى العمل في جهاز الأمن الداخلي، ولا يزالون حتى اليوم يحملون ندوب تلك المرحلة الصعبة والقاسية.

ارتبط العقيد معمر القذافي بالعديد من الأسماء اللامعة في عالم الصحافة سواء في الغرب(بريطانيا وفرنسا تحديدا)، أو في الوطن العربي (بيروت والقاهرة)، والعلاقة هنا- كما لا يخفى على أحد- ليست علاقة حب بقدر ما كانت علاقة تفوح منها رائحة "البترودولار" وشراء الأقلام والذمم، وهي ممارسة معروفة ومستمرة في كافة دول العالم دون استثناء.

وعند انتشار ظاهرة الفضائيات الإخبارية لم يتأخر عن ركوب موجتها وجذبه بوجه خاص "ميكروفون" قناة الجزيرة القطرية التي كانت مطيته وإحدى نوافذه على العالم الخارجي، فاستغل هو انتشارها الساحر واللافت للنظر في فترة وجيزة، واستغلت هي الخزانة العامة الليبية من خلال تكاليف البث الحي في "الجزيرة مباشر" للأحداث التي كان يصنعها القذافي وهي كثيرة، غير أن "الجزيرة" ساهمت في نهاية المطاف إلى حد كبير في إسقاط نظامه، وتلك قصة أخرى قد يكشف التاريخ يوما عن ملابساتها، وفي اعتقادي يكمن سر هذا الانقلاب والقطيعة ونهاية شهر العسل- ودون الذهاب بعيدا على رأي إحدى مذيعات الجزيرة الجميلات- في "البحث عن المرأة" كما يقول المثل الفرنسي.

استمرت الأجسام والحكومات الليبية المتعاقبة منذ المجلس الوطني الانتقالي وحتى اليوم في تهميش قطاع الإعلام والصحفييين الليبيين

استمرت الأجسام والحكومات الليبية المتعاقبة منذ المجلس الوطني الانتقالي وحتى اليوم في تهميش قطاع الإعلام والصحفييين الليبيين، واكتفى القائمون على هذه الأجسام بصفحات "فيسبوكية" باهتة ومبتذلة تفتقر للمهنية ولفنون صناعة الخبر ورواية القصة الصحفية، صفحات تنقل كالببغاء تحركات المسؤول واستقبالاته وتصريحاته دون أي تحليل في استنساخ مشوه للعقود الأربعة الماضية، وهو في الواقع تعد صارخ على حق الليبيين في الوصول إلى المعلومات ومعرفة ماذا يجري في بلادهم وماذا يدور في محيطهم لأنهم ملوا بكل بساطة أن يكونوا "مثل الأطرش في الزفة" كما يقول المثل الليبي.

وفي هذا الصدد شكل لقاء الرئيس السراج والمشير حفتر قبل أسبوعين في أبو ظبي برعاية إماراتية- كما يبدو- حدثا بارزا ومهما في خضم الصراع المدمر والمحموم على السطة والمال في ليبيا، بل قد يكون من أبرز الأحداث منذ اشتعال الحرب العبثية بين عملية "فجر ليبيا" وعملية "الكرامة" قبل ثلاث سنوات- الأختان غير الشقيقتين لعملية فجر أوديسا- غير أن ما دار بين الرجلين- رغم الآمال التي علقها الليبيون البسطاء على ذلك الاجتماع لرفع معاناتهم التي طالت- بقي في صدريهما وعند مضيفهما الذي قد لا يكون فاته زرع مكان اللقاء بأجهزة التنصت.

التزم الرئيس والمشير الصمت واكتفى الرئاسي بإصدار بيان "فيسبوكي" هزيل لا يسمن ولا يغني من جوع

التزم الرئيس والمشير الصمت واكتفى الرئاسي بإصدار بيان "فيسبوكي" هزيل لا يسمن ولا يغني من جوع، ولم تكن له أية انعكاسات في الشارع الليبي عدا ما تم تسجيله في سوق المشير و"دكاكين" الظهرة حيث اشتعل الدولار بعد أن كان هوى إثر نشر صورة اللقاء وبدلة المشير المدنية رغم غياب المصافحة.

قبل بضعة أيام تابع ملايين الفرنسيين عبر شاشات التلفزيون مناظرة على الهواء استمرت حوالي ثلاث ساعات بين المتنافسين على مفاتيح قصر الأليزيه، مانويل ماكرون ومارين لوبان، اللذين عرضا على الفرنسيين برنامجهما لقيادة فرنسا، ثالث قوة نووية وخامس قوة اقتصادية في العالم، لحكم الفرنسيين، ما يعكس احترام هؤلاء القوم لشعوبهم أولا ولأنفسهم ثانيا.

نحن على أبواب السبع العجاف ولم يقم أي مسؤول من متصدري المشهد في ليبيا بتقديم مشروع وطني واحد إلى الليبيات والليبيين عنوانه (ليبيا)، بل كانت قلوبهم شتى وكل أحد منهم يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة والحرص على مصلحة الشعب الليبي وبالتالي الحق في حكمه، وفي خضم الفوضى الأمنية التي غرقت فيها البلاد بسبب هذا التناحر وانتشار السلاح والصراع على السلطة والمال بات الصحفيون هدفا لجميع الفرقاء على أساس "إن لم تكن معي فأنت عدوي" الأمر الذي دفع العشرات من الصحفيين والأدباء والكتاب إلى الرحيل للعيش في الشتات في صيغة أخرى من التهميش والضياع.