Atwasat

استدعاء الاستعمار: التموضعات والقابليات

نورالدين خليفة النمر الأحد 15 يناير 2017, 12:47 مساء
نورالدين خليفة النمر

من حظوظ بدايتي الفكرية تعرّفي بتبصر عفوي، وفي آن واحد علي الكتابات النبوئية والملهمة في مصائر استعمار القرن الـ 20 في المغرب الشمال أفريقي للمفكرين الجزائري مالك بن نبي، والمارتينيكي الذي ارتبط بمصير تحرر الجزائر وأفريقيا من الاستعمار فرانتز فانون. كتاب "وجهة العالم الإسلامي" لبن نبي اشتريته بقروش مصروف الجيب من صاحب بسطة كتب في ميدان الشهداء بطرابلس عام 1970 يوم قطعتني عن الدرس في إعدادية "علي حيدر الساعاتي" مسيرة مؤيدة للانقلاب العسكري الذي وقع في ليبيا عام 1969، وكتاب "معذبو الأرض" منيفستو التحرر الوطني العالمثالثي أعاره لي في نفس العام جارٌ لي يكبرني بعامين، ألجأه الاحتياج واليتم إلى أن يقطع تعليمه المدرسي ويلتحق جندياً في جيش الانقلاب.

في حلقة من برنامج "سِجال" بقناة ليبيا 3 يناير 2017 خُصصت للضغوط الأوروبية ـ والإيطالية على ليبيا المتعلقة بمسألة الهجرة غير الشرعية شدّد الوزير الليبي المفوّض بالخارجية نفيه أن يكون قد تم التوصل مع وزير الداخلية الإيطالي في زيارته للعاصمة طرابلس الاثنين 9 يناير 2017 إلى اتفاق بشأن معالجة الهجرة غير الشرعية، مؤ كداً المباديء المعلنه من قبل ليبيا والمتمثلة في: عدم استجابة الجانب الليبي المفاوض للرغبة الإيطالية وإن كان على حسابها بتوسيع معسكرات إيواء المهاجرين، ورفض الانضمام إلى اتفاقية 1951 الخاصة بالحقوق القانونية والاجتماعية للاجئين، والتي تنص على عدم جواز ترحيلهم قسراً مخافة وقوعهم تحت الاضطهاد، واستمرار سريان بند تجريم الهجرة غير الشرعية في القانون الليبي، ممانعة دخول القطع البحرية لعملية صوفيا المياه الإقليمية الليبية؛ وهو مالوّحت به وزيرة الدفاع الإيطالية في تصريحها بأن عمليات المراقبة البحرية الإيطالية قبالة السواحل الليبية تنتقل إلى خطوة تالية في مسعى لمراقبة أوسع لعمليات الهجرة غير الشرعية، متوازية مع ضبط تهريب المخدرات والمواد الخطرة.

أنا رغم تقديري لهذه الكتابات التي ساهمت إلى حدٍّ ما في تأسيسي الفكري المبكر

بنود الرفض يوازيها اقتراح ثلاثة مسارات لحلّ المشكلة : أ) التعاون المشترك في برامج محددة للتنمية بدول المصدر؛ ب) إعادة المهاجر إلى بلده الأصلي وليس إلى ليبيا ج)البناء على معاهدة الصداقة الليبية ـ الإيطالية المبرمة في 2008 بتسيير دوريات بحرية مشتركة تحت قيادة البحرية الليبية ، مع توّخي الحذر من أن يكون رفع العلم الليبي عل السفن الدورية تعلّة في أن تكون الوِجهة بالمهاجرين إلى سواحل بلاد العَلَم.

حكومة التوافق المعترف بها دولياً، رؤيتها التي أظهرها أمام الجانب الإيطالي الوزير المفوّض بالخارجية الليبية تتمثل في أن السياسة لا يجوز فيها التوقف عن الحوار، بل ينبغي الاستمرار في التباحث والحوار لكسب مواقف تفاوضية. أما إبرام الاتفاقات والتوقيع عليها فهذا شأن آخر، يكون عند توافر أدوات الشرعية الليبية على الأداء الجيد. المراقبون لمجريات الأمور الليبية تستبّد بهم المخاوف، مما قد يستبق به بعض أعضاء المجلس الرئاسي، منفردين بإبرام اتفاقيات تمس مستقبل ليبيا. فغياب روح الانضباطية السائد في عموم اللامؤسسية السياسية الليبية بعد التغيير السياسي عام 2011 مصدر مهم للقلق. فلا أحد يحب أن يري أطفالا يلعبون بالنار.

استخدم لوي ألتوسير مصطلح الاستدعاء "Interpellation " للإشارة إلى العملية التي تقوم بها المؤسسات المهيمنة داخل المجتمع أو من خارجه كالمؤسسة الاستعمارية أو بالأحرى القوة الإمبريالية لتذويت الإنسان المُستَعْمر كونه "طفولياً" و "عاجزاً" وإبقاء هذا التذويت ماسّاً بضمير أعضاء الطبقة السياسية النافذة، حتى بعد زوال الاستعمار ومغادرته البلاد المستعمرة وهو ما يمكن تسميته بما اصطلح عليه مالك بن نبي بـمفهوم "القابلية للاستعمار".

وهذا المفهوم نعني به ف.ماكسيمنكنو في كتابه "الانتليجنسيا المغاربية ـ المثقفون أفكار ونزاعات ـ" انحباس فكر مالك بن بني ـو هو ربما ما تحرّر منه باعتماد مبدأ العنف كتطهير فكر فانون ـ في تصور فلسفي مجرّد أعاقه رغم اطلاعه على كارل ماركس عن بلوغ مقاربته لمشكلة "الفرد والتاريخ" فقد منعت المقدّمات الفلسفية المجرّدة التي انطلق منها تنظيره من فهم أن الإنسان المغاربي المأزوم من أسماه بـ"الإنسان مابعد الموحّدي" وقدره المؤّلد لميكانزيم "القابلية للاستعمار" هما نتيجة تأثير متبادل للقوى الاجتماعية ـ الطبقية. التي يكشف الحدث الاستعماري تفسخ بِنيتاتها.

الاستدعاء وهو ربما ما يفسرّ الحالة الليبية اليوم التي تتجاذبها المصالح المتضاربة للاستعمارات والانتدابات والوصايات القديمة المتجدّدة

الذين ينعون على فكر مالك بن نبي انحباسه في المقدمات الفلسفية المجرّدة ومنهم مفكرون مغاربيون كـ: محي الدين جندر ومحمد آركون، وعبد الله العروي دائما يضعون نصب أعينهم كتاباته المتوجهة إلى الفكر الإصلاحي الإسلامي كشروط للنهضة، ووجهة العالم الإسلامي، والظاهرة القرآنية، ومشكلة الثقافة وغيرها. أنا رغم تقديري لهذه الكتابات التي ساهمت إلى حدٍّ ما في تأسيسي الفكري المبكر، أعاكسهم ملتفتاً لمؤلفاته التي خصصها للتنظير لمكونات سياسية كالمؤتمر المؤسس لبلدان عدم الانحياز كما في كتابه "فكرة الأفريقية الآسيوية" أو لكتاباته السياسية التي كان يكتبها في الصحافة المكتوبة بالفرنسية في أوج الكفاح ضد الاستعمار والتي جمعتها كتبه كـ "مهب المعركة" ومن "أجل التغيير" وفي هذا الكتاب الذي خصّص مالك بن نبي جزءاً لابأس به لمبحثه في ثنائية "نحن والاستعمار" يفسر الآليات الاستعمارية المستعملة لتذويت المُستَعْمر بجعله تابعاً وعاجزاً وطفولياً فيما اتفقنا عليه بالمصطلح الإلتوسيري الاستدعاء " وهو ربما ما يفسرّ الحالة الليبية اليوم التي تتجاذبها المصالح المتضاربة للاستعمارات والانتدابات والوصايات القديمة المتجدّدة.

يكتب بعد هزيمة العرب في عام 1967 الحدث الذي يمكن تصنيفه في وقائعيات عالم مابعد الاحتلال حيث يبقى الاستعمار فهو "في الواقع، عنده معلومات عنا،أكثر بكثير مما عندنا عنه. إنه يكيّف بكل بساطة موسيقاه وفقاً لانفعالاتنا، ولعقدنا، ولنفسيّتنا. إنه يعرف مثلاً أننا تجاهه لانفعل، وإنما ننفعل. وهو عندما يكون قد دخل مرحلة التفكير في مشاكل الغد، في الْحفر الموحلة، التي يريد أن يوقعنا فيها، نكون نحن لانزال نفكر في مشاكل الأمس، في التخلّص من الحُفر الموحلة التي أوقعنا فيها فعلاً".