Atwasat

إمبريالية من نوعٍ جديد.. وتحدٍّ جديد

نور الدين السيد الثلثي الأحد 08 يناير 2017, 02:17 مساء
نور الدين السيد الثلثي

تمرّ ليبيا في السنوات الأخيرة بنوعٍ من الهيمنة مختلفٍ عما عرفَـتْه من استعمارٍ إيطالي في النصف الأول من القرن العشرين، ذلك أنّ بسْطَ السلطة وراء الحدود يتحقق عبر أساليب حربٍ وسياساتٍ وأدواتٍ غيرِ ساكنة، وله أدبياتٌ تختلف باختلاف الظرف والزمان. الحملات الصليبية فصلٌ من فصول تاريخٍ بعيد، والاستعمار الاستيطاني لم يعُد في عصرنا هذا وارداً أو مقبولاً وإن بقي الاستيطان الصهيوني شاهداً عليه؛ أما الإمبريالية بمعناها العريض فتتطوّر وتتكيف مع ما يطرأ في عالمنا من متغيّرات. مرّت على ليبيا ومنطقتنا العربية عبر العصور موجاتٌ من العدوان والاستعمار والهيمنة في مختلف أشكالها، وصولاً إلى ما تشهده ليبيا اليوم من تحدياتِ المواجهة مع ’إمبريالية من نوعٍ جديد‘.

حروبٌ «شاءها الله»
أطلق البابا أوربان الثاني سنة 1095م الحملة الصليبية الأولى من بين سبع حملاتٍ كبرى امتدّت لقرنين من الزمان. استنفر البابا أتباع كنيسته إلى الحرب بذريعة وقف طغيان المسلمين وظلمهم للمسيحيين وحجّاجهم، ودعماً لبيزنطة في حروبها مع السلاجقة الأتراك. أعلن البابا الحرب على المسلمين «لافتكاك الأرض المقدّسة من الأشرار» مطلِقاً صيحته الشهيرة: «شاءها الله»، واعداً أتباعَه بقبول التوبة وغفران الذنوب. ولم يكن بعيداً عن أهدافه أيضاً تعزيز سلطة كنيسته وتوحيد الكنيستين الشرقية والغربية تحت قيادته. الحملات الصليبية كانت حروباً دينية وميداناً لفظائع كبرى تُوصف بمعايير عصرنا بأنها جرائم كبرى ضد الإنسانية. لم تُخفِ الحملات الصليبية أهدافها ولا كانت بحاجةٍ لتفسيرٍ أو تبرير؛ هي إرادة الرّب.

استعمارٌ ينشر الحضارة
كانت لاستعمار القرن التاسع عشر أدبياتٌ أضْفَـت على العدوان هالةً تمجيدية وتبريراتٍ أخلاقيةً لأممٍ تربّعت على قِمم الحضارة، وخطابٌ تأسّس على فكرة التفوّق الأوروبي مقابل النقص العربي، التي جرى التعبير عنها كصدامٍ بين ثنائيات التقدّم والتخلف، والتحضّر والهمجيّة، والعلم والجهل.

عبّر الرحّالة الإيطالي لويجي برِكِتّي في أواخر القرن التاسع عشر عن ذلك بقوله «المعركة هذه المرّة ليست ضدّ الإسلام كدينٍ، وإنما هي ضدّه كعقبةٍ في طريق تطوير حضارةٍ جديدة... لسنا في عالمنا الحديث مسيحيين أو مسلمين؛ بل نحن متحضّرون أو همجيون»، هم الآن ليسوا أعداءً لنا في الدين، بل رُسُل حضارةٍ إلى أممٍ متخلفة.

وسجّل التاريخ كيف جرى نشر الحضارة. لقد شبّه جراتسياني إقليم برقة بـ«الكائن المسموم الذي أنتج دُمّلاً متقيحاً هو أدوارُ الجهاد، ما يتطلّب تدمير أصل المرض وليس آثاره». وعند بادوليو جاء الحلُّ بترحيل سكان الجبل الأخضر إلى معتقلاتٍ جماعية بلغ عدد المرحَّلين إليها أكثر من تسعين ألفاً، في إبادةٍ جماعية مات فيها خمسون ألفاً (*). ولن أنسى في هذا الصدد روايةً سمعتها مباشرةً من السيد عبدالرازق حَمَد العبيدي في أوائل السبعينيات من القرن الماضي. أُجهش رحمه الله بالبكاء من هوْل ما استذكره من صور الموت والعذاب. لقد زُجّ بعبد الرازق في أحد تلك المعتقلات صبياً ومعه جميع أفراد أسرته، ليخرج منه وقد ماتوا جميعاً.

إمبريالية من نوعٍ جديد
شهد النصف الثاني من القرن العشرين تغيّراتٍ كبرى تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، بويلاتها والدمار الذي خلّفته. طرأت تغيّراتٌ على القِـيم والمراجع الأخلاقية في الدول الغربية على وجه الخصوص. وتعاظمت التكاليف المالية للحروب، وتعاظمت آثارها على الاقتصاد والحكومات. أدّى ذلك كله إلى نفورٍ من الحروب التقليدية وأفول النزعة الاستعمارية. ولكن الدول المتقدمة حيث رؤوس الأموال وعلوم وتقنيات وصناعات العصر والقوة العسكرية، تبقى في حاجةٍ إلى عالمٍ مستقرٍّ أسواقه مفتوحة أمام حركة السلع والخدمات والاستثمارات واستخراج الموارد، والاستغلال. فكان لا بُدَّ من الاستجابة لحقائق العصر وابتكار الجديد.

ظهرت إمبرياليةٌ جديدة عبّر عنها روبرت كوبر بوصفها «إمبرياليةً من نوعٍ جديد تكون مقبولةً لدى عالَم حقوق الإنسان والقِيَم العالمية» (**)، إمبرياليةً تقوم بفرض الاستقرار وقِـيَم «ما بعد الحداثة‘ على عالم ’ما قبل الحداثة» ودوله الفاشلة حيث الاستخدام الشرعي للقوّة ليس حِكراً على الدولة، والفوضى، وحكوماتٌ شبيهة بجماعات الجريمة المنظمة، إن وجدت فيها حكومات.

للإمبريالية الجديدة طبقاً لكوبر أشكال، منها إمبرياليةُ الاقتصاد العالمي المسيَّرةُ من مؤسساتٍ ماليّة متعدّدة الأطراف مثل صندوق النقد الدولي والمصرف الدولي. تقوم هذه المؤسسات بتقديم المساعدة مقابل تدخّل المنظمات الدولية والدول الأجنبية لعلاج عناصر الفشل الاقتصادي والسياسي التي كانت سبباً للحاجة للمساعدة أصلاً.

شكلٌ آخر من الإمبريالية الجديدة يسميه روبرت كوبر «إمبريالية الجوار» التي تبرز الحاجة إليها عند عدم الاستقرار أو ظهور الجريمة المنظمة أو الإرهاب على نحوٍ يمثّل تهديداتٍ ليس بالإمكان تجاهلها. عندها قد يتجاوز دور المجتمع الدولي العقوبات بأشكالها والمحاكمات الدولية، إلى التدخل العسكري وتوفير الشرطة والقضاة وخبراء المال وغيرهم مثلما كان الحال في كوسوفو والبوسنة. ولا يفوت كوبر أن يستدرك قائلاً إن العالم بأسره في هذا العصر قد أصبح جاراً محتَـمَلاً.

الجار الليبي
للحالة الليبية الراهنة، كما لكلِّ حالةٍ، خصوصياتها. لقد تدخلت الدول لـ«حماية المدنيين»، ومضت في حملتها الجوية حتى سقط النظام ودُمّرت البُـنية المسلحة وانهارت الدولة فحلّت الفوضى والجريمة والإرهاب وفلتانٌ من العقاب. تقدّم ’المجتمع الدولي لقيادة عملية رسْم الطريق نحو الاستقرار وإعادة بناء الدولة على أسسٍ من ديمقراطية توافقية يكون من أركانها التيار الإسلامي المعتدل، والحريات وحقوق الإنسان. وأصبح لـ«المجتمع الدولي» الكلمة النافذة في الملفات السياسية والأمنية والمالية؛ وتأثيرٌ واسعٌ على جماعاتٍ ولاعبين محلّيين. وكان لإيطاليا موقعٌ متقدمٌ ضمن الدول الممسِكة بالملف الليبي، حتى أصبح لجنودها موطئُ قدمٍ على الأرض الليبية حقيقةً لا مجازاً. غابت عن الاعتبار سيادة الشعب الليبي فوق أرضه وانتماءاتُه التاريخية والثقافية وذاكرتُه الوطنية واستقلالُ قراره الوطني.

وراء خارطة الطريق دولٌ؛ لكلٍّ منها مصالح تشمل: النفط والغاز؛ الهجرة عبر ليبيا؛ احتواء الإرهاب؛ والأرصدة الليبية المجمّدة. وبين الدول تنافسٌ يمكن أن ينتهي إلى توافقٍ على تقسيم البلاد، بعكس ما انتهى إليه تنافسها بعد الحرب العالمية الثانية من إعلان ليبيا دولةً موحدةً مستقلة.

لم يخْلُ عالمنا قَط من سعيِ الأمم لبسط سيطرتها وتحقيقِ أطماعٍ لها خارج أراضيها. تتغيّر الوسائل والأدوات والأدبيات بتغيّر الزمان، وتظلّ الغايات. وكذلك ينبغي أن تُجدّد الأمة استجابتها للتحديات في أشكالها الجديدة، لا أن تنحنيَ أمامها؛ أن تواجه مَواطنَ ضعفها، الموروثِ منه والمستجِد، وتستجمِع مصادر القوة عندها وأدواتِ العصر المتاحة لها. نوعٌ جديد من الإمبريالية يتطلّب نوعاً جديداً من المواجهة. ولا عذرَ لمن ينخدع بخطاباتٍ ربّما كان خطاب البابا أوربان أصدقَها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*): ص 47 و48، أنّا بالدينتي، أصول الأمة الليبية، راتليدج. Anna Baldinetti, Origins of the Libyan Nation, Rutledge.
(**): -Robert Cooper, «The Post-Modern State”, Re-Ordering the World: The Long Term Implications of September 11th, Foreign Policy Centre, 2002.