Atwasat

أيها الليبيون انتبهوا.. روهنغا على أبوابكم

فاضل عزيز الأحد 11 ديسمبر 2016, 11:23 صباحا
فاضل عزيز

محمد وهابيتا طفلان بنغاليان لا يتجاوز عمراهما في تقديري الخمس عشرة سنة، قابلتهما صدفة ذات ظهيرة يجوبان الشارع التجاري لحي الكرامة جنوب غرب العاصمة الليبية طرابلس، تعلو وجهيهما الخاليين من الشعر ابتسامات عريضة تعبر عن فرح طفولي بالنجاح في الإفلات من موت بطيء محقق في قريتهما الطافية على مياه مصب نهر الكنغ، أو موت متوقع وهما يقطعان صحارى وبحارا مترامية الأطراف موحشة للوصول إلى الجنة الموعودة؛ أوروبا التي تمثل ليبيا اليوم واحدة من أفضل بواباتها الممكنة.. يحمل محمد كيسا بلاستيكيا به حبات طماطم وبصل وبطاطس اشتراها لتوه من ذلك المصري البدين ككرة قماش يتدحرج بين صناديق الخضار والفواكه التي ينصبها على رصيف الشارع وجزء من الطريق العام لكسب رزقه في ظل غياب الدولة وأجهزة تطبيق القانون، فيما كان صديقه هابيتا يحمل كيسا به خمسة أرغفة خبز ساخنة اشتراها توا من مخبز مجاور.. ستكون هذه المشتريات البسيطة وليمة ساحرة لهذين الغِرَّيْن ورفاقهم في مقر سكنهما الذي كان مقرا لعمال شركة تنفذ مشروع طريق دائري رحلت وعمالها عن البلاد بعد دخولها في فوضى ما يعرف بثورة فبراير.. خبز أبيض عالي القيمة الغذائية ، وطبيخ من خضروات وبقايا دجاج اشترياها من مذبح دواجن يخصصها لمربي القطط والكلاب، مع كوب من مشروب كوكا كولا، إنها وليمة كانت حلما يرواد خيالهما قبل أن يتركا بيتهما العائم وأسرتيهما تعانيان جوعا سرمديا، وها هما اليوم على بوابة الجنة الموعودة ينعمان بذلك الحلم، أكل حد الشبع وطعام غني ومتكامل وأمن نسبي لجهة الجوع لا يقارن بما كان يتهددهما وهما يهيمان في تلك القرى العائمة يبحثان عن أي شي يسرقانه لسد جوعهما ويبيتان ليالي وأياما ببطون خاوية تراودها أحلام الشبع ولو بوجبة أرز مطبوخ في الماء والملح. يبتسم محمد عندما سألته عن جنسيته أمام تلك البقالة المرتجلة، وهو يختار حبات طماطم وعيون صاحبها المتكور تتابعه بقلق، ويرد على سؤالي بلغة مرتبكة بأنه من بنغلاديش، ويتبع رده بسؤالي عما إذا كنت أعرفها. أجيبه بأنني أعرفها وهي عبارة عن دولة على مصب نهر في خليج البنغال، يبتسم للإيحاء لي بأنه فهم ما أقصده. أتابع استجوابي الارتجالي بسؤاله عن كيفية وصوله إلى ليبيا وعن مهنته وعن مشروعه في ليبيا وووو إلخ من الأسئلة التي أوصلتني إلى حقيقة مخيفة تنذر بمستقبل سيء لهذا الطفل وأمثاله من مئات الآلاف من البنغاليين، و للمجتمع الليبي جرَّاء موجات الاجتياح البشري التي تدفع بها بنغلاديش إلى العالم وإلى ليبيا خاصة بحكم انعدام مؤسسات الدولة والإدارة فيها التي يمكن أن تقنن هذا الاجتياح وتحد منه وتحول دون تحوله إلى أزمة حقيقية على مر الأيام لا تقل خطورة عن أزمة الروهنغا في دولة مانيمار التي تحولت من أزمة هجرة إلى أزمة إنسانية وسياسية تهدد الاستقرار في هذه الدولة وتجعلها هدفا لحروب سياسية واقتصادية دولية.. محمد وهابيتا لم يذكرا لي الحقيقة كاملة عن كيفية وصولهما إلي ليبيا.. يقولان إنهما اقترضا ثلاثة آلاف دولار من أحد أقاربهما الأثرياء لتمويل رحلتهما إلى ليبيا، وأنهما وصلا عن طريق البحر إلى السودان ومن ثم رحلا بالبر بمساعدة مهربين إلى ليبيا حيث بقيا في الجنوب شهورا يعملان في مزارع بأجور زهيدة إلى أن تمكنا من الوصول إلى طرابلس التي يعتبرانها البوابة الأولى نحو أوروبا.. لم يعلقا على سؤالي عما إذا كانا قد رهنا أخوات لهما أو أمهما لدى ذلك التاجر الثري مقابل الحصول على المال لتمويل رحلتهما، واكتفيا بالابتسام وتبادل النظرات في مشهد يعبر عن استغرابهما لمعرفتي بهذه القصة!!، كما لم يردا على سؤالي عما إذا كانا قد التقيا أيا من قادة الجماعات الإسلامية في السودان أو حتى في بلادهما ودعوتهما للانضمام إلى إحدى هذه الجماعات، وأوضح هابيتا الذي يبدو أنه فهم مغزى سؤالي أنهما خرجا من قريتهما العائمة بحثا عن لقمة العيش لأسرتيهما اللتين تعانيان الجوع والفاقة، وأنهما لا علاقة لهما بأي جماعة وأنهما مسلمان صالحان يصليان ويصومان ولا ينويان التورط في أية مشاكل.. وعند هذا الحد من اللقاء المرتجل قرر الطفلان البنغاليان إنهاء الحوار وودَّعاني بابتسامة متوجسة، وواصلا سيرهما إلى ذلك المعسكر المتهالك الذي يديره شباب ليبيون منحرفون يستخدمونه كملجأ للغرباء بمقابل لتمويل احتياجاتهم من المكيفات وحبوب الهلوسة وجلسات الأنس واقتناء الملابس وأجهزة الهواتف المتطورة.. هناك في تلك الأروقة القذرة وفي معسكرات مماثلة أخرى تنتشر في مدن ليبية في شرق البلاد وغربها وجنوبها تنمو الخلايا الأولى لروهنغا جديدة في ليبيا لن تمر سوى عقود قليلة لتعلن عن نفسها وتنجح في تثبيت جذورها واكتساب صفة الشرعية بحصول أفرادها على حق المواطنة بمقتضى نصوص مشروع الدستور العتيد الذي ينهمك جهابذة الدساتير في نحته بأناة وروية تضاهي السلاحف في بطئها.. حتما لن يفلح مئات الآلاف من أطفال بنغلاديش وشبابها الذين وصلوا إلى ليبيا بمساعدة شبكات تجار البشر الدولية التي يتورط في إدارتها بطرق غير مباشرة بعض أعضاء السفارة الليبية في دكا، لن يفلحوا في العبور إلى أوروبا، خاصة بعد أن توحدت أوروبا في مواجهة هذه الموجة من موجات الجوعى نحوها وتعمل جاهدة على تغيير وجهتها نحول الجنوب، وإزاء ذلك لن يجد هؤلاء الضحايا أفضل من ليبيا وطنا لهم، حيث يعد الجوع بمواصفاته البنغالية نوع من الأساطير، فالخبز الأبيض والأرز حلم أهلهم في قرى بنغلاديش، مرمي على الأرصفة ويقدم للمواشي في ليبيا كعلف، وحيث الأرض الخالية من السكان تفيض على سكانها الذين لا يزيد عددهم عن عدد سكان حي من أحياء دكا، وحيث الخدمات مجانية متوفرة في الشوارع بدون مقابل من مياه وكهرباء وطرق وحتى مستوصفات وإن كانت خالية من الأدوية، وحيث المستقبل الواعد بالحصول على مصدر عيش عندما تستقر البلاد وتستعيد الدولة هيبتها.. ترى إذا ما فشل محمد وصديقه هابيتا في العبور إلى أوربا، وهذا أمر متوقع جدا في ظل الرفض الأوروبي، فهل من الحكمة أن يقررا العودة إلى ذلك القِنِّ المتهالك العائم على مصب نهر الكنغ؟ وحتى إذا ما قررا ذلك ونجحا في العودة، فمن أين لهما تسديد رهن أخواتهما أو والدتيهما الأسيرات لدى ذلك التاجر الجشع الذي يمارس عليهن أبشع أنواع السادية والاحتقار؟ أم أنهما سيظلان يعيشان وهما يشاهدان بعيون عاجزة تلك المأساة التي صنعاها بأيديهما دون أن يتمكنا من إنهائها؟ لن يبقى أمامهما سوى حل واحد ممكن ومغرٍ في نفس الوقت، وهو البقاء في ليبيا بأي صورة وتحت أي ظروف، وأن الحل الوحيد أمامهما هو نسيان ذلك الماضي المرعب ومحو كل مشاهده المؤلمة من ذاكرتهما، والتوجه لبناء شبكات روابط اجتماعية جديدة تجمعهم بمئات الآلاف من بني جلدتهم المنتشرين في مختلف المدن الليبية، يساعدهما في ذلك شبكات الاتصالات التي وفرتها ثورة المعلومات العالمية التي ألغت الجغرافيا وحولت المسافة بين البشر إلى صفر.. وفي الروهنغا الموعودة في ليبيا والتي حتما لن تواجه مصاعب كما واجهتها شقيقتها في مانيمار، بحكم أن هذه الروهنغا الليبية سيعطيها الإسلام-الدين الرسمي لليبيين- وسيطرة تيارات الإسلام السياسي على المشهد في ليبيا، وجودا شرعيا ويوفر لها الدستور الموعود حق الوجود والحماية القانونية، ذلك أن ليبيا 17 فبراير غير ليبيا ما قبل هذا التاريخ ، فهي بحكم تحولها إلى دولة فاشلة ستكون مقصدا وملجأ لكل شذاذ الآفاق من الجوعى والمنبوذين والمطاردين في قضايا إرهاب وجرائم جنائية، الذين يدينون منهم بالإسلام حقا أو ادعاءً.. والبنغال بحكم أنهم مسالمون ولا يحبذون العنف ويفضلون قضاء مصالحهم بالطرق السلمية وإن اضطروا إلى الخداع والتزوير والمداهنة ستكون فرصتهم في تحقيق قبول وتعايش وسط المجتمع الليبي كبيرة.. وإلى أن يحققوا غطاء شرعيا ووجودا فاعلا ومؤثرا في بنية المجتمع الليبي؛ ساعتها فقط سيعي الليبيون خطورة هذا الكيان الغريب ثقافيا وعرقيا على هوية وطنهم ويسعون إلى تفكيكه، لكن حينها سيكون الوقت الملائم والممكن لتفكيك هذه الروهنغا الليبية قد نفد، وأن أصوات منظمات إنسانية عالمية سترتفع للدفاع عن حقوق الروهنغا في ليبيا، وسيضيف الليبيون بجشعهم وعدم مبالاتهم وإهمالهم وانحدار ولائهم الوطني وتفكك قيمهم وتهالك نسيجهم الاجتماعي أزمة جديدة تدينهم أمام العالم بالعنصرية ومعاداة الغريب وانتهاك حقوق الإنسان.