Atwasat

حطّاب الوعر، فتّاح الدروب

نورالدين خليفة النمر الأحد 14 أغسطس 2016, 10:06 صباحا
نورالدين خليفة النمر

سمعت اسم كاتبنا الكبير يتردد على لسان أبي عندما كان يتحدث في الوطنية الليبية ومخاضها العسير في أربعينيات القرن الـ20 الأواخر، عندما كان الأديب المبجّل علي مصطفى المصراتي مناضلها وخطيبها المفوّه، وأبي المرحوم رجل أميّ ثقفّته الحياة فبدأ العمل فعليا سائق أتوبيس، وقبل أن يُشهره معارضا لسياسات النظام الدكتاتوري الاشتراكية التي أممت أرزاقه القليلة اسم الحاج/التاريخ- اشتهر بالحاج خليفة، لأنه رافق الحجّاج الليبيين يسوق سيارة إسعاف عام العدوان الثلاثي 1956 حتى السويس ثم عبروا القناة، ومنها إلى مكة المكرّمة، فكُتبت له حجّة عمره الوحيدة، وعندما تعلمت القراءة تهجأت إسم الأديب الأريب الذي مازال يلمع في ذاكرة طفولتي على غلاف مجموعته القصصية "مِرسال" التي كنت ألمحها في رّف الكتب الصغير في بيت ابني عمّي غير الشقيق ساسي (امحمّد وعبد الله)، ثم صورته واسمه في الجرائد التي بدأت صغيرا أقرأها، وبعدها على أغلفة كتبه في شرفة مكتبتي الفرجاني، والفكر بشارع الوادي وأكشاك باعة الصحف تحت حائط السراي الحمراء، وبين الكتب التي يطرحها باعة الأرصفة تحت أقواس بنك روما أمام ميدان الشهداء وفي ميادين وشوارع أخرى تحفل بالكتب كعمرالمختار وهارون الرشيد.

لم يحالفني الحظ أن أكتب في تآليف شيخ الأدب الليبي علي مصطفى المصراتي

أول مرة لمست كتاب قصّه مرسال بيدي تقريبا عام 1967 ضمن كتب أخرى أهدتها وزارة الإعلام الليبية في مناسبة وطنية للعاملين بالمراكز الثقافية الذين كان أحدهم قريبا وجارا لرفيق مدرستي وجاري، الذي سمح لي بتصفح الكتاب لدقائق وإرجاعه إليه، يومها حزنت لأن أبي لايقرأ ولايكتب، وكونه يعمل سائقا فلا يجلب لي كتبا تُهدى إليه… أول مرة- وهذه أذكرها جيّدا- أرى أستاذنا شيخ أدباء ليبيا المبجّل علي مصطفى المصراتي في الحلبة عيانا وبيانا، عام 1971، مقدّما ومديراً لمحاضرة المرحوم الأديب التونسي أبوالقاسم كرو الذي أشهره لنا كتابه المبكر عن شاعر بلده الرومنطيقي (أبو القاسم الشابي)، المحاضرة كانت في قاعة برلمان دولة الاستقلال المأسوف عليه وعليها، بمتفرّع من جادّة البلدية المجانب لحديقة الغزالة (المختفية اليوم)، ومناسبتها تقلّد الأديب المحاضر مهمته مديراً مؤسسا للمركز الثقافي التونسي في العاصمة طرابلس، المأسوف عليه هو أيضا والمقفل بسبب الفوضى الليبية منذ عام 2013.

في النقاش تطاول بعض الشباب المنتمين وقت ذاك إلى حزب التحرير الإسلامي المحظور، ومنهم من قضى نحبه سجناً ومنهم على أعواد المشانق (رحمهم الله) على قدر ومكانة المحاضر فما كان من أستاذنا المصراتي إلا ان انبرى منافحا دفاعا عن المحاضر الضيف، مفحما مخاصميه بلسانه الصارم اللوذعي، وبيانه الجريء الصميدعي. منذ ذلك اليوم وحتى اليوم وأنا معجبٌ ببداهة بيانه، مخوف من لوذعية، وصرامة لسانه. وعندما كنت أقف في المحاضرات العامة معقّبا أو معلّقا في حضوره، أظلّ متوتراً خوّافا أن يُرتج علّي مُصيبا لغتي بتصويبه، أوينال رأيي بلذعه وتأنيبه، وقلما فعل.

شرّفني الأستاذ أن أجلس بجانبه محاضراً في مهرجان شيخ الشعراء أحمد الشارف الأوّل- بزليطن عام 1992, وقرّض مقالتي فيه "الشارف روح النهضة وهاجس الارتياب" والشاعر الشارف أصدر الكاتب المصراتي ديوانه، وقدّمه مفتّحا بواكيره وأزاهيره لقارئييه، ورافقته، بل جالسته في الحافلة صحبة الصديق المؤرخ الأديب عمار جحيدر، والبحاثة الموسوعي والأديب الراحل أستاذنا علي فهمي خشيم في رحلة ممتعة من بنغازي العامرة- الجريحة اليوم- عبر دروب الجبل المخضرّ الأشمّ إلى درنة الزاهرة- المكلومة اليوم- للاحتفاء في ثمانينيات القرن الـ20 الأواخر بتذكار شاعر راحل هو بلبل درنة الغرّيد إبراهيم الأسطى عمر الذي أخرج كاتبنا أيضا للنور أشعاره بدراسة مقدّمة لتصدح في ديوانه"البلبل والوكر". وزرته مرّة وحيدة في بيته المعمور بـ"الصريم" وكحلّت ناظري بمكتبته العامرة بالآداب والفنون، وشربت قهوته صحبة الزميل الجامعي الصديق الذي يجمعني به النسب الجبلي الأديب عبد الحميد الهرّامة. عدا عشرات من لقاءات ومحاضرات، وندوات، ومؤتمرات كان فكره وبيانه روحها وإمتاعها.

الأديب البحاثة علي مصطفى المصراتي فكراً وكتابةً يليق به وصف النهضوي الإحيائي

لم يحالفني الحظ أن أكتب في تآليف شيخ الأدب الليبي علي مصطفى المصراتي، فقد تجاوزني القائمون المحررون لمجلة الفصول الأربعة الليبية المأسوف على غيابها، عندما أصدروا عام 1993 مشكورين عدداً بحثيا خاصاً تكريما له لغيابي عن طرابلس ووجودي في ألمانيا، كما لم يخاطبني رغم وجودي في طرابلس الكاتب الصديق أحمد الفيتوري مُستكتباً عندما أصدر31 مارس 2014 عددا من صحيفته ميادين في تكريمه.. ولكني أعده إذا تيسرت الأسباب،وصحّت الهمّة والعزيمة أن أكتب في إضاءته، لعصامية الليبيين وكفاحهم: المناضل الحرّ غومة المحمودي، والشهيد البطل سعدون السويحلي و الصحفي الرائد" أبو قشّة"، وفي كتابته الماتعة التي قرأناها في قصه المبكّر مرسال والشراع الممزق، ودعابات جحاهُ الليبي، وفي الليبيين أمثالهم وفنونهم وآدابهم الشعبية ونماذج ظلّهم وخفة دمّهم: المسرحي- الملاكم حمدي والشاعر الجوّاب والسيّدتين سلاماتو، والزنتانية، والطبيب الأديب سعيد طوقدمير. كما سأكتب أيضا في تميزه شخصا مرحا خصبا بالبداهات والمشافهات من نُكث،ومُلح، وقفشات ووخز كلِم ونغزات جرت على لسانه وساقها إمتاعا وإضحاكا لحياتنا الليبية الخاملة، العابسة دوما.

لقد فاتني حظي أن ألتقي الكاتب الكبير بمدينة بون- بألمانيا، التي مكث فيها شهورا عام 2004 لغرض العلاج، وأتيتها من الشمال لغرض العمل، فقد لمحت بعضا من كتبه صدفة معروضة في شرفة مكتبة عربية في شارع بوبلسدورف، وعندما سألت قالوا لي كان هنا.. فضاعت فرصتي أن أماشيه على ضفاف نهر الراين، وأسامره في مقاهيه، المقاهي التي شغِف بها وأحبها.

الأديب البحاثة علي مصطفى المصراتي فكراً وكتابةً يليق به وصف النهضوي الإحيائي هو عبقري جمع في إهابه عباقرة الفكر والكلِم : وجدان مؤرخ الناس الجبرتي، وإحياء روح الأفغاني جمال الدين، و جمعٌ لتنكيت وتبكيت عبدالله النديم في نقد المجتمع والحياة، وذلاقة لسان وجاحظية فكر أحمد فارس الشدياق وفصاحة بيانه. أما فطرته فوطنية ليبية صافية، وعربية أصيلة وافية، وإسلامية رحبة ضافية. أطال الله عمر أديبنا الرائد الشهير وهو يحّل بعامه التسعين، ومتعه بالصحة والسلامة العفية العافية.