Atwasat

سِفر الخروج البريطاني

نورالدين خليفة النمر الإثنين 18 يوليو 2016, 09:11 صباحا
نورالدين خليفة النمر

"الفصح"، كلمة عبرية وردت في الإصحاح الثاني عشرفي سفر الخروج من أسفار العهد القديم، ومعناها "عبر" وهي سرديا الرواية الرمزية لعُبور الشعب اليهودي من أرض مصر إلى أرض كنعان ورمزيا من العبودية إلى الحُرية، أي الكلمة المعبّرة عن إرادةالانكفاء على "غيتو" الذات أو الاكتفاء بها دون الحاجة للآخر. فـكلمة "سِفر" وفعلها المتعدي إسفار، عبر بها الفيلسوف (هيدغر) عن انكشاف الحقيقة من الانحجاب، إلى جانب كلمات غيرها كالعبور من وضع إلى وضع والخروج من حالة إلى حالة، والمتداولة اليوم بصدد التعبير عن صدمة أغلب المفكرين والساسة الأوربيين من نتيجة استفتاء الشعب البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي.

"الشعبوية populism" صيغة محدثة منحوتة من كلمة شعب، وتعني دلالاتها في السياسة والمجتمع أنماط التسييس، والديماغوجية، والتطرّفات، وهي نزعة تتّلبس الحركات والمحاولات المنتهجة من طرف السياسيين الجامحين لحشد الشعب أو بالأحرى الجماهير وتجييشها في مواجهة نظم الحكم التي يرونها فاسدة، ومنكفئة لخدمة منفعياتها الأنانية دون مصالح العامة من الناس.

ميكانيزمات التمثيل وآلياته التي اعتمدها الاتحاد خلقت شعورا بأن "نخبة فوقية" ما تدير الأمور

الباحثة (كريستا ديويكس) وصفت "الشعبويّة" بالظاهرة التي تختصر العملية السياسية في الإيمان بمحورية الشعب، حيث يتوجّب على أداء السياسيين أن يعكس الإرادة الشعبيّة بشكل عفوي و مباشر!. وإذارفضت أو تلكأت النخبة الحاكمة في تحقيق هذه الإرادة الشعبية، أو عجزت العملية السياسية عن الإيفاء بمتطلباتها، في تحقيق عالم أفضل وأكثر عدالة للناس، عندها تطفر "الحروب الشعبوية"! التي تسعى لأن تستبدل النخب السياسية بأخرى أكثر تحقيقاً لإرادتها. اللافت تاريخيا في نظرالباحثة (ديويكس) أن الحركة الشعبوية غالبا مالاصقت العملية الديموقراطية، ومن هنا تشدّيدها على أن ظهور هذه الحركات هو المؤشر الحقيقي لوجود الخلل في العملية الديموقراطية ذاتها!

أن إلقاء تبعة مشكلات بريطانيا على سيرورة البناء الأوروبي دعاية في غير محلها. فيما يرى (فيليب اشكنازي)، فمعاناة الطبقة الوسطى الدنيا في بريطانيا، لاتؤول إلى أوروبا، بل تلقي مسؤوليتها على الخيارات السياسية والاقتصادية التي التزمها حزب المحافظين.، وأن المؤرخين وحدهم مع مرور الزمن هم من سيقررون ما إذا الطبقات الوسطى الأوروبية كانت ستصير في حال أفضل لو لم تنضوِ في الاتحاد الأوروبي. كما أن رجما بالغيب أو فيما يشبهه القول بأن الشرائح والمناطق التي تدهورت أحوالها المعيشية في الأعوام الأخيرة هي التي اقترعت للانسحاب، وأن المناطق المزدهرة بالعكس من ذلك صوتت للبقاء فيه.

في التأريخ للشعبوية نلحظ أن مجتمعات وتجارب شهدت وقائع خلل متكررة عبر حقب تاريخية مختلفة، أبرزها الإمبراطورية الرومانية حيث تمظهرت الحركة الشعبوية في أفعال (تيبريوس جراكوس) و(البوبولارِس) " Populares" وجرائر بِدعهما التي أصابت بالضرر"المجلس الروماني"، بينما في فلورنسا الإيطالية القرن 16 فقد تجلّت النوازع الشعبوية في أفاعيل أبطال "البوبولو" (Popolo) المعاصرين لـ (ميكيافيللي)، عدا مُحدثات ( اليعاقبة) في باريس نهايات القرن 18، واجتياحة ( الديمقراطيين الجاكسونيين) لواشنطن في القرن19.

كُل هذه التحشيدات الجماهيرية السالفة وما أعقبها من بدع، وتطرّفات شعبوية أدلجت خطابها على بساطة وخيرية العامة. و بحلول منتصف القرن العشرين، أصبحت الشعبوية حسب ( ياشا مونك) نمطا اعتياديًا مرافقا للديمقراطية. بل إفرازاً طبيعياً للنظام السياسي الديمقراطي، لارتباطها بحركات التجاذب بين وجهيّ الديموقراطية: "البراغماتي" الذي تمثلّه المؤسسات الديموقراطية من (إضراب وانتخابات وجماعات ضغط)، والتي يتم صنع القرار فيها من خلال توافقات وتفاعلات وإعداد كبير من طرف الفاعلين السياسيين. والوجه "المثالي" الذي تمثل فيه الديموقراطية طريقاً لحياة أفضل من خلال تحقيق "إرادة الشعب" لأموره وتنفيذ إرادته في تحديد مستقبله.

لتنفيذ الخيار الثاني يكون " الاستفتاء" كما هو سائد في الديمقراطيات الغربية السلاح المفضل في يدّ الأحزاب القومية، فبه يُمكنها كسب التأييد الشعبي لتوجهاتها، التي مثّلت ديناميكية تسارعها تحديا راديكاليا قلب أساسات المسار الراهن للوحدوية الأوروبية رأسا على عقب. فالاتحاد الأوروبي باعتباره كيانا تقوده هيئة مستنيرة تضع في صميم بنيتها القيم الليبرالية مثل الحقوق الفردية، وحماية الأقليات، والاقتصاد القائم على السوق، مثّل في نهاية المطاف التعبير المطلق عن الديمقراطية التمثيلية السائدة.

بيد أن ميكانيزمات التمثيل وآلياته التي اعتمدها الاتحاد خلقت شعورا بأن "نخبة فوقية" ما تدير الأمور، بعيدا كل البعد عن المواطنين العاديين. الأمر الذي أعطى الأحزاب القومية إضافة إلى المخاوف التقليدية التي أجّجتها بشأن قضايا مثل الهجرة والتجارة الهدف المثالي لحملتهم المناهضة للاتحاد الأوروبي، التي أقدرتهم على اجتذاب الناخبين المحبطين لتأييد شعاراتهم الخروجية بالتصويت الإيجابي عليها.

كل المعطيات الناتجة عن الاستفتاء البريطاني تُقرّ بأن الانقسامية الأوروبية ستنشعب إلى نقيضين

(غوردون بروان) المترّشح السابق عن الحزب العمالي البريطاني رئيسا للوزراء 2007 ــــــ2010 ينزاح بهذه المفارقة الثنائية على نتيجة الاستفتاء المؤيدة للخروج البريطاني، وهو ينحاز لأيديولوجية البقاء في الاتحاد الأوروبي يرى بأن وجه المفارقة عكس تركيزاً عالياً للمشاعر المناهضة التي غذّتها الدعايات الشعبوية في المدن التي كانت ذات يوم في قلب الثورة الصناعية البريطانية والتي غالبا ما اكتفت مطالبها بـ "الحماية" من التقلبات المصاحبة للعولمة، والتي بسبب المنافسة الآسيوية صارت تعج بالمصانع والورش المهجورة. إلا أن شعارات حملة "البريكست" أوالخروج التي تمركزت حول استعادة السيطرة الوطنية، جعلتها بالضد من نصيحة النخب السياسية ورجال الأعمال تصطف مع الشعبويين والحركات المطالبة بالتدابير الحمائية المحطمة للولاءات السياسية الطموحة لكيان أوروبي موَّحد.

ترّجح أغلب آراء المفكرين والساسة الأوروبيين أن نتيجة استفتاء الخروج البريطاني أسفرت عن رؤيتين متضادتين لأوروبا: الرؤية الدبلوماسية التي جسدها الأب المؤسس للاتحاد الأوروبي (جان مونيه)، والحريصة على النأي بالمسائل الكبيرة الحساسة عن مجال التسييس الشعبي وخفضها إلى قضايا فنية يمكن إدارتها من خلال تسويات بيروقراطية خلف الأبواب المغلقة.

والرؤية (الديموطيقية dichotomy) أوالديمقراطية الشعبية التي تجسدها اليوم بحمولاتها الرمزية كل الأصوات القومية وأبرزها حزب "استقلال المملكة المتحدة" الذي ساعد في قيادة حملة الخروج البريطانية، بالتسييس العمدي لقضايا مثل شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي أو اتفاقية الشراكة مع أوكرانيا وهي رؤية معاكسة لصورة مونيه التي تأخذ بالتسويات الدبلوماسية.

كل المعطيات الناتجة عن الاستفتاء البريطاني تُقرّ بأن الانقسامية الأوروبية ستنشعب إلى نقيضين ففي حين تنخرط أوروبا "الدبلوماسية" في مساعي إيجاد المصالحة، فإن أوروبا "الديموطيقية" ستدور حول الاستقطاب، وبينما تسعى الدبلوماسية إلى خفض درجة التوّتر؛ فإن النموذج الديموطيقي بالعكس من ذلك سيتحشّد لزيادتها. وإذا كان في إمكان الدبلوماسيين العمل معا؛ ففي الديموطيقية يصبح التضامن مستحيلا. بحيث لا تترك الاستفتاءات بما تتسم به من ثنائية وجمود مساحة كبيرة للمناورة السياسية والتسوية الخلّاقة اللازمة لحل المشاكل السياسية فتكون محصلّة الديمقراطية الشعبية في نتيجتها الأخيرة صفرا.