Atwasat

قلب الظُلمة

نورالدين خليفة النمر السبت 02 يوليو 2016, 05:53 مساء
نورالدين خليفة النمر

تُعد قلب الظلمة «Heart of Darkness» التي كتبها (جوزف كونراد) العام 1899 في أوج صعود الخطاب الكولونيالي الغربي أول رواية أوروبية، مشكّكة فيما ادّعاه شاعر الإمبراطورية البريطانية (روديارد كبلنج) بـ«عبء الرجل الأبيض» The White Man Burden، المهمّة التي تعطي الأوروبي الحق في استعمار أفريقيا وإخراج بدائييها من قلب الظلمات إلى النور.

فـ«الـرعب! الـرعب!» الكلمات التي يصرخ بها (كيرتز) الموصوم بـ«بارانويا التأله» والمستهدف بمهمة إنقاذ في الكونغو هي الخاتمة التي سيقترحها (ت.س.إليوت) قبل استبعادها من قبل الشاعر (عزرا باوند) عند مراجعته لقصيدة إليوت «الأرض اليباب» والتشكيك في المهمّة الحضارية المزعومة، هو ما سيدفع (إدوارد سعيد) إلى أن يجعل جوزف كونراد موضوع أطروحته للدكتوارة، وأن يخصّص لرواياته الضد - كولونيالية، فصلاً لافتًا في كتابه المتأخر «الثقافة والإمبريالية». وعدا كون الرواية ملهمة فيلم «القيامة الآن» للأميركي (فرانسيس فورد كوبولا) فهي مدرجة في المقرر الأدبي للثانويات في الولايات المتحدة الأميركية، الدافع الذي ربما جعل الرئيس (أوباما) في تظاهرة تشجيع المشاريع الثقافية الصغيرة العام 2014 يصدّرها في قائمة مشترياته لابنتيه ( ساشا، وماليا) من مكتبة «نثر وسياسة» المستقلة بواشنطن.

كل هذه المؤشرات المهمة المتعلّقة بالرواية لا تدفع للقول إنها كانت دليلاً ملهمًا لـ( مارتن كوبلر) وسيط المهمة الأممية البيضاء في قلب النزاع الكونغولي الأسود، وهو يستلم في يونيو 2013 مهمته بتكليف من الأمين العام للأمم المتحدة ( بان كي ــ مون) مديرًا ومنسّقا للجهد السياسي والعسكري لوحدات قتالية قوامها 20.000 جندي تابعة للأمم المتحدة لمقاومة وضع انقسامي- مقارب في نزاعيته للوضع الليبي- تقوده ميليشيات مسلحة متعدّدة التوجّهات تحترف القتل والتعذيب، وتهيمن عليه عصابات تهريب تمارس الغصب والنهب.

في مقابلة مع القناة الألمانية( ZDF) اعترف كوبلر بمفارقة مهمته العسكرية وغرابتها في سياق «مهمات حفظ السلام» المعتادة في عمل الأمم المتحدة، بفرضية عدم توّفر سلم في الكونغو يمكن المحافظة عليه، ولكن المفارقة المزاحة من مهمته ما برحت ملتبسة بشخصه، كونه عضوًا منتميًا لحزب الخضر الألماني ومن العقول المدّعمة لمضامين سياسته السلمية، بل بيئويا عرف بانشغاله بحماية وسلام الغابات المطرية في البرازيل.
ورغم شبهة الإدارة الحربية التي التبست بها مهمة كوبلر في الكونغو، إلا أنّها وضعت البلد على طريق انتخابات ديمقراطية دعّمت إلى حد ما من استقراره وهو ما دفع الكونغوليين الذين استقبلوه في يونيو 2013 بالحجارة بسبب فشل الأمم المتحدة المتكرر في هذا القطر الأفريقي المزمن اضطرابا، وانقساما منذ استقلاله في العام 1960، إلى أن يودّعوه بالقبلات والدموع في أكتوبر 2015.

العقلانية الأداتية المستوعبة، بل المدّجنة لردود الأفعال، التي تستجيب لغرائز السياسة! وهي ما تعلّمناه في معرفيات ومنهجيات علوم السياسة في الجامعة الألمانية، تشترط لامتصاص كل ردود أفعال الغرائز المجتمعية التي تتغلّف بالسياسة في البلدان الأفريقية والعالمثالثية، كـ (الكونغو وليبيا) إحكام خطة عسكرية- سياسية مفعّلة لشبه ديمقراطية تؤسس للسلم الأهلي، وهو الأمر الذي تمّ تقريبا في جمهورية الكونغو، ولم يتّم إلى حد الآن في ليبيا، التي عبثت بمؤسساتها المدنية التي أسست لها دولة الاستقلال 1951-1969 دكتاتورية فوضوية فارقة 1969-2011 وأحالتها القوى الدخيلة، والمصطنعة التي التبست إرادة التغيير الشعبي الحاسم في 2011 فضاء نزاعيا مسلحا، ومفتوحا كقلب الظلمة كناية عن نهر الكونغو في رواية كونراد «قلب الظلام».

المسؤولية الأخلاقية في هذا المشهد العبثي الذي ترزح فيه ليبيا منذ2011 وحتى اليوم تقع في جزء كبير منها على عاتق الأمين العام للأمم المتحدة (بان كي- مون)، الذي أخضع مهمات وسطائه لليبيا منذ العام 2012، وحتى اليوم إلى تضارب مصالح القوى الدولية والإقليمية التابعة لها، والتي تقاطعت استجابات القوى الصراعية الليبية المصطنعة مع رسائلها المتضاربة. فقد كان ينبغي عليه- حسب ما ورد في ميثاق المنظمة- أن ينطوي العمل الذي اضطلع به على قدر من التوتر الطبيعي الخلاق، فهو كونه «المسؤول الإداري الأول» كان يلزمه أن تتساوى نشاطيته المشجّعة مع دبلوماسيته المُوفّقة في مهمته التي تحتاج إلى قدر كبير من الحماس والحساسية والخيال، وهي صفات يجب أن يضيف إليها الأمين العام شعورا بالتفاؤل لا يتزعزع، أي الإيمان بأن المُثُل العليا المُعبّر عنها في الميثاق يمكن أن تتحول إلى واقع ملموس.

وهو الأمر الذي تم عكسه تماما في تصرّفاته، وتصريحاته المتشائمة التي أوردتها صحيفة الوسط الورقية 03 ديسمبر 2015 المتناقضة والجولات المكوكية التي واكبت استلام المبعوث (كوبلر)، لمهمته سعيا منه لجمع «أوراق ضغط» تستعجل الاتفاق الليبي باتجاه إعلان حكومة توافق وطني وفقا لاتفاق الصخيرات. حيث طالب (بان كي ـ مون) الدول الإقليمية في المنطقة بالتأثير على الليبيين، مشيرا إلى أن موفده لازال يعمل للتقريب بين الأطراف الليبية، مستدركا بنبرة لا تخفي تشاؤمه وقلقه من أن الفشل، تقع مسؤوليته على الليبيين أنفسهم.

في موضعتي لمهمتي الوسيطين (طارق متري، وبرناردينو ليون) في مقالتي المنشورة في موقع قناة 218 بتاريخ 23 / ديسمبر / 2015 تحت عنوان «خوري الضيعة وعرافة فنجان ليبيا المقلوب» قاصدًا بذلك الثقافوية المتسرّعة لـ(متري)، التي قفزت على خصوصيات المشهد «الانقسامي» الصراعي الليبي المبتدئ فلم تقرأه إناسيّا (أنثربولوجيا) بدقّة، واضعة إصبعها على جذور وحدود المرض المجتمعي في مشهديته الثورية؛ إذ تنصّلت من حذاقة «خوري الضيعة» اللبنانية، متلبّسة إهاب المثقف في «برجه العاجي» الذي استدعى في مهمته الليبية راديكالية (خليل الكافر) المتشائمة المستلهمة من رومانتيكية (جبران )، وبمساعدة الليبيين الذين تصدّوا بعفوية في الأغلب لمناولة شأنهم العام بالسلاح وفي الأقل بدونه ساهم ( متري) بفوقيته في إفساد المشهد السياسي الليبي الفجّ والهّش والمُفسَد من أساسه، مقترحا من ذاته توصيفا لمهمتّه الليبية، مؤطرا الليبيين ومموضعا إياهم في «كليشيه» مصطنع مقارب للصراعية الطائفية اللبنانية، مستثمرا خبرته فيها وربما آليات التعامل معها، مبرزا عددا مبالغا فيه من المتحاورين! الليبيين، متغاضيا- كما درج في التجربة (اللبنانية)- عن استبدال كثير منهم لبدلة المحارب الميليشاوي، بزيّ السياسي المصالحي أو المؤدلج مدشّنا آلية للحوار وعّرت مسالك الليبيين- كما ورد عنوانا لكتابه- إلى الوفاق وأخذت بأيديهم إلى نفقه اللبناني المظلم في بنيته الطائفية (المغتونة) سياسيا بتعبير المفكّر (جورج قرم)، والقائمة على مبدأ التوافق على اللااتفاق، مسلّما مهمة الاستمرار فيه لــ (برناردينو ليون).

الوسيط الإسباني الذي جمع في مهمته الليبية المنكودة بين إهاب «الفتى/الطروب» وسَمْت الدبلوماسي الناعم، الباعث على الثقة المستعار من أستاذه الإسباني الوسيط الدولي الشهير (خافيير سولانا) الذي عمل معه متقمّصا قناعه، مستلهما دبلوماسيته وطرائقه التي أشهرها ما سمّي في الأدبيات السياسية الدولية بـ«إدارة الأزمة» وبمخيّلة الفارس النبيل (الدون كيخوث) أوهم ليون طواحين الهواء من الفرقاء السياسيين! الليبيين أنّهم «الفرسان الأعداء»، وبربابة المغني الجوّال أطربهم وأرقصهم «صمّ بكم لا يفقهون» عبر العالم فوق طاولات «المفاوضات» التي أطلق عليها تحبّبا تعبير (طارق متري) اسم «الحوار».

فهل تنتهي «ربنسونية» مارتن كوبلر إلى ما انتهت إليه «جبرانية» طارق متري، إلى ما انتهت إليه «دون كوخوثية» برناردينو ليون إلى الحافة المعتمة في قلب الظلمة؟!