Atwasat

الفِلاَّقة الجُدد

نورالدين خليفة النمر الأربعاء 13 أبريل 2016, 09:07 صباحا
نورالدين خليفة النمر

الحرابة نزوع إلى انتهاب الرزق بالعنف،هي لصوصية فَظًّةٌ، تستعيض عن الاحتيال المراوغ بالسلب المُكْرِه، أطلق عليها محليا أسم(الفِلاقة).

وعدا كونها ظاهرة سوسيو/اقتصادية مستعادة من أزمان فوضى المعاش البشري، فإنها تعبير عن واحد من امتساخات الإنسان المقلقة التي عالجها أدبيا كظاهرة سرقة وقطع طريق في القرن الثالث الميلادي(أُبوليوس المدوري) الذي اشتغل بالخطابة والفلسفة ردحا من عمره في أويا- طرابلس في كتابه" الامتساخ" المشهور بـ" الاستحمار الذهبي"، الذي حاز هو و" دفاع صبراتة" قصب السبق بتعريب أصله اللاتيني عن الإنجليزية الكاتب الموسوعي الليبي علي فهمي خشيم منذ سبعينيات القرن العشرين، مسديّا خدمة جليلة ليس لكلاسيكيات المكتبة الليبية فحسب، بل لإضاءة مخيّلة القلق الإنساني إزاء ضروب العنف التي تحيط باجتماعه المدني.

والتي تتغوّل كاشفة عن بدائية التوحش البشري في أعوام الجفاف البيئي والمجاعات فيما أطلق عليه باستعارة الدارجة الليبية " سنين الشر*" وفي أزمان الفوضى التي يؤججها إلى جانب الاحترابيين في النزاعات الأهلية ؛ اللصوص وقطّاع الطرق أو بالتعبير الدارج (القُطعِيون) الذين سمّوا محليا في حقب العنف الفوضوي في الغرب الليبي بـ(الفلاّقة).

اللصوصية التي قارب امتساخها فعل السحر الأسود في رواية (أبوليوس) والتي صارت مبحثا علميا في كلاسيكيات الأدب والتاريخ كما في أطروحة(W.Riess) بالألمانية(Apuleius und die Räuber) " أبوليوس واللصوص" ستظل لونا من سرديات فانتازيا العبث في الشكل الذي عبّر عنه أدبيا (أبوليوس) في روايته "الامتساخ" أو "التحوّلات" وجسّده "حرابيون" في واقعنا الليبي المحزن اليوم حسب الخبر الذي أورده موقع بوابة الوسط الأثنين الماضي 11 أبريل 2016 ، عن الحدث الجنائي الذي وقع في الطريق بين بلدتي" نسمة" و"مزدة" جنوب غرب طرابلس، وهو السرد الجدير بأن ينضاف إلى مخيّلة الامتساخ ، فيما كتبه (أبوليوس المدوري) في القرن الثالث الميلادي.

إذ لم تكتف العصابة الحرابية بالسطو على مقدمة شاحنة «راس أفيكو» والاستيلاء على ناقلة من نوع «كنتر» انقلبت بهم أثناء فرارهم على بعد 10 كلم من مزدة، بل قاموا أيضا بسرقة سيارةِ مارين في الطريق،و الاعتداء عليهما بالضرب المبرح وتقييد المجني عليهما ونقلهما في السيارة إلى مكب قمامة على تخوم بلدة مزدة ورميهما فيه، حيث هاجمتهما الكلاب حتى كادت تقضي عليهما.

سيكولوجيا لم يرق،هذا السلوك الحرابي بالاعتداءضربا ورميا لأشخاص في القمامة عرضة لافتراس الكلاب السائبة، إلى مستوى النزوع السادي المرضي، فيما اقترفته المجموعات الإرهابية الإسلاموية في بنغازي عامي 2015.14 من أفعال إجرامية أبانتها مقاطع(فيديو)، بتقطيع الجثت، وعرضها وفصل الرؤوس وتقاذفها بالأرجل، أو مايقوم به عناصر تنظيم الدولة الموهومة (داعش) علنا في سرت، بقطع الرؤوس والأطراف وصلب الجثت في مهرجاناته المبثوثة عبر ميدياه المبرمجة لـ"بَنْيَنة مخيلة خوف" التعبير الذي أطلقناه عنوانا لمقالنا المنشور بموقع بوابة الوسط في 2015.03.23

إلا أن الواقعة الجنائية الواردة في خبر بوابة الوسط الآنف ذكره، تعطي مؤشّر المنعطف السوسيولوجي في أعمال اللصوصية التي شرعنتها الفتوى الدينية للثورة وأطرتها فيما وُصف بـ(الغنائمية)، السلوك الذي انتظم فيه بدءا وبشكل عفوي الثوّار، وصيّرته فيما بعد سياق كسب، يستجيب لتقاليدها المعاشية القبائل التى كانت قديما رعوية ومترحلّة والتي عُرفت تاريخيا في حقب المجاعات والفوضى بأنها مصدر لعصابات قطّاع الطرق واللصوص من أبنائها الذين اشتهروا باسم (الفلاّقة)، والذين روّعوا في الماضي المستقّرين في القرى المعرّبة والبربرية في الجبل الغربي. وبعد الثورة الشعبية 2011 وباسم قبائلهم التي شارك بعضها في الانتفاضة، أخذوا يقومون بالتعدّي بعد زوال النظام الحاكم في العاصمة طرابلس على الأملاك والأموال العامّة، ونهب الممتلكات الخّاصة ، والأموال التي تكسّبها المتنفذون من الموالين للنظام الدكتاتوري المنهار.

الانقسام المجتمعي والاقتتال الأهلي هو الذي سيزيد من ضرواة الأفعال الحرابية مدرجا فيها جماعات وعصابات مضافة من قبائل أخرى في ليبيا من ضمنها المنطقة التي تشمل بلدات: (مزدة، والشويرف، ونسمة، والشقيقة) وهي المناطق التي توّطن فيها تاريخيا النشاط الحرابي الذي عُرف ممارسوه بـ(الفلاّقة) والتي ازدحم الموقع الصحفي لبوّابة الوسط في سنة 2015 بأخبار الأعمال الحرابية والسلوكات الحرابية المرّتدة التي اندرجت فيها مناطق قارّة لم يمتهن أبناؤها تاريخيا الحرابة من ضمنها غريان التي تعرض أفراد منها إلى أعمال السرقة بل نُهب موكب حجّيجها عام 2013 في مناطق بوُرشفانة، والتي اضطرّت مجموعات من أبنائها لإقامة بوابات وهمية مسلحة كردّة فعل انتقامية، وهي السلوكات التي ستنضاف إلى فوضويات الانقسام الليبي وتحوّلاته السوسيولوجية التي أدخلت ليبيا في مرحلة فوضى حرابية وأمنية جديدة تتراكم مسبباتها على أسباب أخرى حالت دون المحللين وتفحّص الواقع الليبي في محاولة منهم لفهم الأحداث الجارية فيه بعد الثورة، وغالبا ما اصطدم هؤلاء المحللون بشحّ المعلومات المتعلّقة بمكوّنات المجتمع الداخلية، تلك التي يفترض أن يبني عليها الفاعلون السياسيون- إن وجدو!-أهدافهم وسلوكهم ومواقفهم، والمعنيون دوليا بالشأن الليبي استراتيجيات عملهم.

هذا الاستعمال المحدود بل النادر لتعبير الفلاّقة وصفا للمقاومين الليبيين من طرف المستعمرين الإيطاليين

تاريخيا لم ترد كلمة (الفلاّقة) على لسان الولاة والقادة العسكريين الإيطاليين لتوصيف المجموعات القبلية أو الرعوّية البدويّة التي قامت بأعمال الحرابة المسلّحة في النزاعات الأهلية التي واكبت الاحتلال الإيطالي، والمتمثلة في أعمال نهب وسلب في المناطق الحضرّية المشمولة بالحماية الإيطالية.

وهو ماتؤكّده الوثائق والتقارير العسكرية والسياسية التي قام الكاتب الليبي مفتاح السيّد الشريف بترجمتها وإعادة بنائها في سياق تاريخي مع مقتطفات من كتابات أخرى وإصدارها مؤخرا في كتاب ضخم في مشروع تأريخه للحركة الوطنية الليبية ضد الاحتلال الإيطالي 1911- 1920.

إلا أن( إبراهيم العربي الغماري) في رواية ذكرياته عن( العقيلة) المعتقل الجماعي لليبيين في الحقبة الفاشيّة من الاستعمار الإيطالي يورد في شهادته التي وثّقها في كتاب صادر عن مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية هذا التعبير ذا الدلالة المحلّية على لسان المسؤول العسكري الإيطالي عن المعتقل برتبة بريغادير وهو يخبرهم بواقعة القبض على من وصفه برئيس العصاة المناضل الليبي الشهير(عمر المختار). معتبرا الحدث نهاية حرب إيطاليا ضدّ (الفلاّقة).

هذا الاستعمال المحدود، بل النادر، لتعبير الفلاّقة وصفا للمقاومين الليبيين من طرف المستعمرين الإيطاليين هو مايثّبت معناها الحرابي السلبي الذي أوضحناه في مقالنا، وهو المعاكس لمعناها الإيجابي الذي ربط ربما بين اللفظة وبين الانتفاضات الشعبية ضد الاستعمار الفرنسي في بلدان الشمالي الأفريقي فجملة" مملكة الفلاّقة" التي أطلقها القائد الاستعماري الجنرال (شال) في وصف قبيلة "الميلية" بولاية قسنطينة في الجزائر الحالية ستصير مبعث فخر للمقاومين الجزائريين.

الأمر الذي دفع أحد المناضلين من أبناء المنطقة ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر عمر العيدوني أن يضعها عنوانا لكتاب حوى شهادته في المقاومة. أمّا في تونس، فتعبير: " الزعيم الأكبر للفلاّقة" هو ماوصفت به صحيفة" لو موند " سنة 1954 المقاوم التونسي الأزهر الشرايطي الذي قاد على خطى سلفه المناضل الشهير محمدالدغباجي 1885ــ 1924 في السنوات الثلاث الأولى من خمسينيات القرن العشرين مجموعات من الثوّار أحسن تنظيمها وتسليحها لشنّ الهجمات ضد المعسكرات ووسائل الاتصال الاستعماريّة في المنطقة الممتدّة من قفصة في الجنوب وسهل قابس حتى منطقة الرأس أي( كاب بون)، وهي المنطقة العسكرية التي وُضعت تحت قيادة اللواء جاربي الذي قاد عمليات عصابات يمكن وصفها بـ"فلاّقة استعمارية مضادة" سبق له أن أثبت مهارته فيها في مدغشقر سنة 1947.

خارج التاريخ، المتعلّق منه بمقاومة الاستعمار، سيبقى الفعل اللصوصي والحرابي، وصمة شائنة لواقع صادم تؤجج أُواره الفوضى المجتمعية وتذكيه أسباب الانقسام الأهلي وعوامله المعاشية البدائية التي يثبتها في الوجدان البشري الاستبداد والظلم والفساد، بما سينضاف منه زادا يخصب مخيّلة العنف والشّر المصاحبة لبدائية الإنسان وتوّحشه.

* في هذا السياق تعني "الشر" الجوع أو المجاعة.